امتد وجود المؤسسة الدينية الشيعية في مدرسة أهل البيت (ع) في عمق التأريخ الاسلامي الطويل، وبدأت الخيوط الأولى لنسيج هذا الكيان تتشكل منذ المقاطع الزمنية الأولى التي انبثق فيها التشريع.
وقد دأبت (المؤسسة الدينية) خلال مسيرتها الطويلة هذه على حفظ الثروة العلمية الإسلامية المتدفقة، وصيانة المنابع الأساسية للتشريع، والاهتمام بالمظاهر والوقائع والمعطيات التي اكتنفت الرسالة الإسلامية في مختلف أدوارها، والاعتزاز بها والمحافظة عليها.
واحتل فكر مدرسة أهل البيت (ع) الطليعة الأولى في تغذية روافد هذه الثروة الغنية، من خلال السيل الفكري والتراث العلمي المتدفق الذي خلفه أهل البيت (ع) للأمة الإسلامية.
وبهذا تمثل (المؤسسة الدينية) المنبع الحقيقي والمصدر الأساسي الذي تستقي منه حركة الشيعة اتباع أهل البيت (ع) وقودها في الاستمرار ونظرتها إلى مختلف جوانب الحياة، فتقوم كل مجموعة من طلبة العلوم الدينية بتحمل جزء من هذه المسؤولية الجسيمة، إذ أن الإحاطة التفصيلية بكل خصوصيات الواقع وجزئياته لا يمكن تصورها بشأن أي فرد مهما كانت قدراته الذاتية ومؤهلاته العلمية باستثناء مصدر التشريع المتمثل بالنبي (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع). ومن المفترض أن تحصل هذه الإحاطة في خطوطها العامة وبشكل إجمالي لدى (المرجع الديني) الذي يمثل قمة الهرم في هذا الوجود، باعتبار معالجة (الفقه) الذي هو مجال تخصصه لمختلف شؤون الحياة.
وهذا لا يعني الاستغناء عن المتخصصين في المجالات المتعددة الأخرى، وإلغاء دورهم بشكل كامل، بل يبقى (الفقه) يمثل الخط الخلفي العام الذي تستمد منه كل هذه المجالات شرعية حركتها وتحديد هويتها، فتبقى الطولية محفوظة بين كل هذه التخصصات والعلوم من جهة، وبين علم الفقه من جهة أخرى. و (علم الفقه) باعتبار توفر هذه الخصوصية الشمولية فيه، وكونه يمثل الشريان الأبهر لكيان الشريعة الإسلامية، فإنه أخذ موقعه المتقدم في هذه المؤسسة الدينية طيلة الحقب التاريخية المتطاولة، واقترن التاريخ له بالتأريخ للحالة العلمية المتنامية في هذا الكيان.
فدراسة تاريخ (المؤسسة الدينية) ومحاولة التعرف على بدايات نشوئها، وطبيعة حركتها، ومراحل نموها... يتطلب دراسة التاريخ الفقهي في حركة الإسلام، وملاحظة الفترات التي قطعتها هذه الحركة، والمواقع التي انطلقت منها، والظروف التي هيأت لها.
وسوف نقوم باستعراض عاجل لهذه المراحل منذ بداية نشوء هذه المؤسسة في تاريخ المسلمين الشيعة وحتى وصولها في رحلتها إلى مدينة (النجف الأشرف) حيث استمرت في هذا المركز الديني الكبير لما يناهز الألف عام.
كانت (المدينة المنورة) تمثل المهد الأول لمنطلق الرسالة الإسلامية، والعاصمة العلمية الأولى التي تربّى فيها فقهاء المذهب من الرعيل الأول مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وعبد اللّه بن عباس حبر الأمة، وغيرهم من كبار الصحابة والتابعين. وكانت مهمة هذه النخبة الرائدة تتمثل بحفظ مضامين القران الكريم وسنة أهل البيت (ع) وصيانة الشريعة ونقلها إلى الأجيال اللاحقة بأمانة وحرص وإخلاص.
وقد دون الفقهاء في هذه المرحلة الأولية عدة مدونات حديثية مهمة (1).
ولهذا ساهمت هذه الفترة بإرساء قواعد الفقه الإسلامي الشيعي، وتأسيس دعائمه، وخصوصاً في عهد الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق (ع).
فعلى الرغم من حدة الصراع بين التيارات السياسية المتكالبة على السلطة في عهد الإمام الباقر (ع)، وكثرة الفتن والاضطرابات التي مرت بها الأمة الإسلامية آنذاك، إلا أن إطلالة الإمام (ع) كانت قد فتحت أمام العلوم الإسلامية آفاقاً جديدة، وأعطت للحركة العلمية الشيعية زخماً فقهياً كبيراً، ومنحت الفكر الإسلامي أصالة وثراء، وأشبعت المطالب الكلامية والاعتقادية بحثاً وتدقيقاً.
فاتخذ الإمام (ع) من الجامع النبوي الشريف وبهو بيته مركزاً لنشر هذه الثروة العلمية الغنية، وأخذت الوفود العلمية تترى إليه، لتأخذ العلوم والمعارف منه، يقول الشيخ أبو زهرة: «وما قصد أحد مدينة النبي (ص) إلا عرج عليه، ليأخذ عنه معالم الدين»، وقد أخذ عنه أهل الفقه ظاهر الحلال والحرام، وعموماً فإن الحياة الثقافية في هذه الفترة مدينة لهذا الإمام العظيم، وهو الباعث والقائد لها على امتداد التاريخ (2).
وعندما جاء دور الإمام الصادق (ع) مرت الحركة العلمية بفترة من الازدهار العلمي المتميز، على الرغم من ظروف الإرهاب التي كانت سائدة آنذاك، فقد أحست السلطات العباسية أن الإمام (ع) بحركته هذه سوف يسحب البساط من تحت أقدامها، ويكسب رأي الأمة لصالحه، وينفذ في أعماق الجماهير، من خلال مختلف المعارف والآداب والعلوم التي كانت مدرسته تغذي المجتمع بها.
ولأجل هذا سعى أبو جعفر المنصور العباسي عندما تولى الخلافة عام (136 هجري) إلى القضاء على هذه الحركة العلمية بمختلف الوسائل والأساليب، لما رأى من إقبال الناس على الإمام الصادق (ع) واجتماعهم حوله ولما كان يمتلكه (ع) من موقع مرموق في نفوس أبناء الأمة الإسلامية، ونفوذ في أعماق الرأي العام القائم آنذاك، وخصوصاً في أوساط أهل العلم والفضل.
فعمد (المنصور) في البداية إلى استمالة الإمام (ع) إليه، ظناً منه أنه (ع) سوف يستجيب له، ومن ذ لك أنه كتب إليه: «لم لا تغشانا كما يغشانا الناس»، فكتب إليه (ع): «ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا تراها نقمة فنعزيك». فكتب إليه المنصور ثانياً: «تصحبنا لتنصحنا» فأجابه الإمام (ع): «من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك» (3).
لقد أصبح واضحاً لدى المنصور، أن الإمام الصادق (ع) ليس من النوع الذي ينجرف مع هذه العروض الدنيوية الزائلة، ويستجيب لهذه الاغراءات الزائفة، فقطع أمله في هذا النوع من المحاولات، وعمد إلى أسلوب آخر يتمثل بالقوة والمواجهة والإكراه.
فبدأ بملاحقة شيعة الإمام (ع) ورواد مجلسه، وجعل عليهم العيون، ففرضت عليه العزلة الكاملة، وأخذ الناس يمتنعون عن زيارته وينفضّون عنه.
وعلى الرغم من كل هذا الذي كان يبدو للمنصور من نفوذ لفكر الإمام الصادق (ع) واتساع نطاق تأثير مدرسته وكيانه العلمي، إلا أنه لم يجد ما يبرر له أن يفتك به، لأنه يخشى العاقبة من ذلك، لما كان يعلم به من تعلق الناس بشخصية الإمام (ع) وحبهم له.
فكان (المنصور) يرى سلطانه مهدداً، وملكه زائلاً إن طال الوقت واستمر الزمن، وأراد أن يقرب مما يرومه، وذلك في فرض الإقامة على الإمام (ع) في الكوفة، ليكون قريباً منه، وعسى أن تصدر منه بادرة فينقض عليه (4).
وبهذا يقع الفكر ضحية الاستبداد، ويلاحق العلم في كل موقع ينطلق منه، ويتعرض رواد مدرسة صادق أهل البيت (ع) إلى شتى أنواع الاضطهاد والبطش والتنكيل في (المدينة المنورة)، فتنتقل الحركة العلمية إلى (الكوفة) وتصبح هذه المدينة المدرسة الدينية الثانية بعد (المدينة المنورة)، وتتأقلم هذه الحركة مع الوضع الجديد، وتبدأ مسيرة جديدة تشق طريقها وسط تيارات الإرهاب، وتتمخض عن عطائها الجم رغم محاولات الكبت والاحتواء.
وعلى الرغم من كل هذه الضغوط التي تعرضت لها مدرسة الإمام الصادق (ع) العلمية في (المدينة المنورة)، وفي (الكوفة) في أواخر أيامه (ع)، إلا أنها انحسرت عن نتاج ملأ الخافقين، وعن علم جم غفير أتحف التراث الإسلامي بعناصر البقاء، وروافد الاستمرار، ومفاصل التغيير.
وقد استثمر الإمام الصادق (ع) الفترة الانتقالية من (الحكم الأموي) إلى (الحكم العباسي) حيث سادت أجواء ملائمة نسبياً لبث الفكر والثقافة والوعي الأصيل، ووضع أصول الفقه وفروعه، فمثلت هذه الحقبة الزمنية بذلك فترة الازدهار العلمي من بين مراحل انتشار الشريعة على يد أهل البيت (ع).
فمن المصاديق البارزة لهذا الازدهار أن (أبان بن تغلب) قد روى عن الإمام الصادق (ع) (30.000) حديث وعد له ابن النديم في الفهرست ثلاثة كتب: كتاب في القراءات، وكتاب في معاني القرآن، وكتاب في أصول الحديث على مذهب الشيعة (5).
وروى (محمد بن مسلم) (40.000) حديث، وقال الحسن الوشاء: «إني أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد» (6).
وأملى الإمام (ع) كتاب توحيد المفضل، وكتاب الإهليجية، ومجموعة الرسائل التي رواها عنه جابر بن حيان (7).
وفي هذه الفترة صنف علماء الشيعة المعاصرون للأئمة (ع) ما يزيد على (6.600) كتاب في الحديث، ومن بين هذا العدد تميز (400) كتاب اشتهر باسم «الأصول الأربعمائة» (8).
والخلاصة أنه لم تزدهر المدرسة الحديثة في مذهب من المذاهب الإسلامية كما ازدهرت عند الشيعة في ذلك الوقت، وكان لهذه المرحلة أهمية خاصة في حفظ التراث الإسلامي والأحاديث النبوية، فلهشام الكلبي أكثر من (300) كتاب، ولابن شاذان (280) كتاباً، ولابن دؤل (100) كتاب، ولابن أبي عمير (94) كتاباً، ولهذا قال الذهبي في ميزان الاعتدال: «لو رُدّ حديث هؤلاء - أي الشيعة - لذهبت جملة الآثار النبوية» (9).
ومما عزز هذا الموقع الهام الذي احتلته مدرسة (الكوفة) بالنسبة إلى الانطلاقة الفكرية الشيعية، أنها كانت عاصمة الدولة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فمثلت الكوفة بذلك «أول مركز للتشيع طوال عهد الدولة الأموية» (10).
وفي بداية عصر الغيبة الكبرى بدأت خصوصيات هذا الكيان العلمي ومعالم المدرسة الفقهية تتبلور بشكل أكثر وضوحاً من السابق، وأصبحت مدينتا (قم والري) في (إيران) المعهد الديني الذي ترعرعت فيه الحركة العلمية الجديدة التي اتسمت بطابع الرشد والتطور عن المرحلة السابقة.
فقد كانت بلدة (الري) في هذا التاريخ عامرة بالمدارس والمكاتب، وحافلة بالعلماء والفقهاء والمحدّثين، وكان في بلدة (قم) من المحدثين (200.000) رجل (11). ولعل السبب في هذا الازدهار يعود إلى أن (قم والري) كانتا خاضعتين لسلطان حكومة (آل بويه) المعروفين بولائهم وتشيعهم، مما أدى إلى أن يجد علماء الشيعة الأرضية الصالحة لنشر الفقه الإسلامي، وترويج دعائم الفكر الشيعي تحت ظل هذه الدولة الموالية.
فبرز في هذه الفترة علماء كبار أتحفوا العلم والفكر بآثارهم الفذة من أمثال محمد بن يعقوب الكليني (329 هجري) وأبي جعفر محمد بن علي القمي المعروف بالصدوق (381هجري)، فقد دون هذان العلمان موسوعتين حديثيتين كبيرتين هما: الكافي في الأصول والفروع للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، إذ احتوت هاتان الموسوعتان بين دفتيهما على جملة الأحاديث الواردة عن أهل البيت (ع)، وبوبتها بشكل منهجي متناسق، وقد انتظم هذان الكتابان في جملة (الكتب الأربعة)(12) التي تمثل المنابع الأساسية لحديث أهل البيت (ع) عند الشيعة.
ودونت كذلك كتب حديثية أخرى، فقد ذكر ابن النديم في الفهرست أن الشيخ الصدوق ذكر (200) كتاب لوالده (علي بن الحسين)، وكان للصدوق نحو من (300) مؤلف، من جملتها موسوعته الحديثية الكبرى «عيون أخبار الرضا (ع)»(13).
انتقلت (المؤسسة الدينية الشيعية) بعد هذه المرحلة إلى (بغداد) في القرن الخامس الهجري، وأخذت ملامح هذا الكيان تحمل طابع الاستقلالية والنضوج والكمال، لما تهيأت لها من أجواء فكرية وسياسية ملائمة، فأنجبت هذه المدرسة كتلة من النبوغ البشري، ومجموعة شامخة من العقول الشيعية الجبارة، يقف في طليعتها الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (413هجري)، والشيخ المرتضى (436هجري)، وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (460هجري)، (الذي كان يحضر درسه حوالي 300 مجتهد من الشيعة، ومن غير الشيعة ما لا يحصى)(14).
بدأ في هذه المرحلة (علم أصول الفقه) يضرب جذوره تدريجياً من خلال تنقيح المسائل الأصولية بصورة مستقلة عن الحديث، وإدخال فن الصناعة إلى (علم الفقه)، واستنتاج أحكام شرعية خارج نطاق ألفاظ الحديث، وعدم الجمود على ظاهر نصه والاكتفاء به.
وطفقت (المؤسسة الدينية الشيعية) في هذه المرحلة تمارس دوراً اجتماعياً وفكرياً متميزاً إلى جانب اهتماماتها الفقهية والعلمية التخصصية، ونشطت الحركة الثقافية بشكل ملحوظ، فدخل علماء الشيعة في غمار المباراة العلمية الصعبة التي كانت قائمة آنذاك، وخاضوا لججها الغامرة، فخرجوا منها بنظريات فكرية وإبداعات فقهية، وتصورات مفاهيمية في منتهى العمق والثراء والأصالة.
فإن من استعرض حياة الشيخ (المفيد) يستظهر أنه استطاع أن يغير الجو الفكري في (بغداد) حاضرة العالم الإسلامي يومذاك، وأن يكهرب ندوات الفقه والكلام، ويجذب إلى نفسه طلاب العلم، حتى كاد أن يغطي المدارس الفقهية والكلامية الأخرى، والفقهاء والمتكلمين من أتباع سائر المذاهب، وقد كان الفقهاء والمتكلمون يقصدونه من أقطار بعيدة، وكان بيته ندوة عامرة بحديث الفقه والكلام والنقاش والأخذ والرد(15).
وأما حركة التأليف والكتابة، فقد أخذت طابع الشمولية والمنهجية أكثر من المراحل السابقة، وامتلأت (المؤسسة الدينية الشيعية) بنفائس الكتب العلمية القيمة في مختلف المعارف والفنون الإسلامية والإنسانية.
فقد أحصى (السيد الأمين) في (أعيان الشيعة) للشيخ (المفيد) قريباً من (200) كتاب ورسالة في الفقه والكلام والحديث، وعدّ للسيد المرتضى ما يقرب من (90) مجلداً من مقروءاته ومصنفاته ومخطوطاته، وذكر (أقا بزرك الطهراني) اسم (47) مؤلفاً للشيخ الطوسي مما وصل إليه من أسماء مصنفاته(16).
سياسياً أيضاً مارست (المؤسسة الدينية الشيعية) في ذلك الوقت دورها بكل جدارة، وكان لعلماء هذه الفترة مكانة اجتماعية وسياسية مرموقة، وامتد نفوذهم بشكل فاعل وقوي في الدولة وأجهزتها.
فقد اتصل الشيخ (المفيد) بالدولة فقدرت مكانته حق تقديرها، وأجروا الرواتب له ولتلاميذه، وخصصوا له جامع (براثا) في منطقة (الكرخ) لوعظه، وإقامة الصلاة جمعة وجماعة، وله معهم نوادر وقضايا منشورة ومشهورة(17).
وبلغ الأمر بشيخ الطائفة (الطوسي) أن كان له كرسي الكلام والإفادة، وكان لهذا الكرسي يومذاك عظمة وقدر فوق الوصف، إذ لم يعط إلا لمن برز في علومه، وتفوق على أقرانه(18).
أفلت الحركة العلمية في (بغداد) عند دخول (طغرل بيك) إليها بالجيوش السلجوقية وأحرقت حينها مكتبة الشيعة الضخمة التي أنشأها أبو نصر سابور وزير بهاء الدولة البويهي، والتي كانت تضم أكثر من (10.000) كتاب من جلائل الآثار ومهام الأسفار، وتوسعت الفتنة حتى اتجهت إلى شيخ الطائفة (الطوسي) وأصحابه فنهبوا داره، وأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه(19).
فبزغت مدرسة (الحلة) ومدرسة (النجف) خلفاً لمدرسة (بغداد).
وأخذت هذه الحركة طابعاً أعمق من السابق، وأكثر رشداً ونضوجاً، فقد نظمت أبواب الفقه، وعرضت بأسلوب منهجي وموضوعي، وتم تدوين (الفقه المقارن) وإبرازه في موضوعات ضخمة وشاملة، وتميز عرض الفقه الشيعي في هذه المرحلة بمزيد من التطور، وقد تمثل هذا العرض رائعاً في كتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلي (676هجري)، حيث بقي هذا الكتاب منهجاً ناضجاً وحيوياً يتعاطاه طلبة العلوم الدينية في (المؤسسة الدينية الشيعية) منذ زمن تأليفه في القرن السادس الهجري حتى الوقت الحاضر.
وبعد هذه الرحلة الطويلة رست حركة العلم في مدينة (النجف الأشرف) حيث مرقد باب مدينة علم الرسول (ص) علي بن أبي طالب (ع)، بعد أن انتقل إليها شيخ الطائفة (الطوسي)، واتخذ منها منطلقاً لنشر الفكر الإسلامي وقاعدة للتحرك والتغيير، ومناراً لطلب العلم من جديد، وأخذ يستقطب طلبة العلوم الدينية من كل مكان، ويودعهم من أسرار علمه، وكنوز معارفه (فصيَّر مدينة النجف الأشرف مركزاً للعلم، وجامعة كبرى للإسلام، فشدت إليها الرحال وتعلقت بها الآمال، وبان فضلها على ما سواها من البلدان، وتخرج من هذه الجامعة خلال هذه القرون المتطاولة ما يعدّون بالآلاف المؤلفة من أساطين الدين، وأعاظم الفقهاء، وكبار الفلاسفة، ونوابغ المتكلمين، وأفاضل المفسّرين، وأجلاء اللغويين، وغيرهم ممن خبروا العلوم الإسلامية بأنواعها، وبرعوا فيها أيما براعة(20).
واستمرت هذه الجامعة الدينية الكبرى تغذي الإسلام في مختلف أدوارها بالفكر والثقافة والأدب، ومختلف المعارف الإسلامية المتنوعة الأخرى طيلة ألف عام، وكانت تتحول عن هذا الموقع، وتنتقل عنه في بعض الأزمنة لفترات وجيزة مؤقتة، إلا أنها ما تلبث أن تعود إلى مهدها الأول ومقرها الأصيل، فبقيت محوراً لكل هذه المعاهد المنتشرة، وأساساً لكل انطلاقة إسلامية أخرى إلى هذا اليوم.
__________________________
(1) محمد مهدي الآصفي، مقدمة الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، النجف 1398 هجري. ص 27.
(2) باقر شريف القرشي، حياة الإمام الباقر (ع)، دراسة وتحليل، النجف 1977م، ص 139.
(3) الإربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 427.
(4) أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، بيروت 1971 م، ج 5.ص 49.
(5) علي الفاضل النائيني، علم الأصول تاريخاً وتطوراً، قم 1405 هجري، ص 78.
(6) محمد مهدي الآصفي، المصدر السابق، ص 33.
(7) محمد طراد، مجلة نور الإسلام، العددان 13، 32، ص 41.
(8) أغا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، بيروت 1983م، ج 2، ص 70 - 125.
(9) محمد مهدي الآصفي، المصدر السابق، ص 35 - 36.
(10) د. عبد اللّه فياض، تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، بيروت 1975، ص 59.
(11) محمد مهدي الآصفي، نفس المصدر السابق، ص 45.
(12) الكتب الأربعة هي: الكتابان المذكوران في المتن، و«تهذيب الأحكام» و«الاستبصار» للشيخ الطوسي.
(13) محمد مهدي الآصفي، المصدر السابق، ص 49 - 50.
(14) محمد مهدي الآصفي، المصدر السابق، ص 55.
(15) محمد مهدي الآصفي، المصدر السابق، ص 55.
(16) محمد مهدي الآصفي، المصدر السابق، ص 57 و60.
(17) علي الفاضل النائيني، المصدر السابق، ص 98 - 99.
(18) محسن الأمين، أعيان الشيعة، بيروت 1983م، ج 90، ص 159.
(19) محمد صادق بحر العلوم - مقدمة رجال الطوسي، النجف 1961م. ص160.
(20) محسن الأمين، المصدر السابق، ص 160.