الممنوع والممتنع في تفسير القرآن
* ماجد الغرباوي
عندما نستقرئ تاريخ الرسالات نجد ان الكتب السماوية تحتل، بعد نزولها مباشرة، المرجعية المعرفية الاولى لمعتنقي تلك الديانات، اذ عنها تصدر رؤية شاملة للكون والحياة، تنبثق منها منظومة قيمية واخلاقية تؤطر سلوك الانسان، وتحفظ توازناته عبر تصورات ومفاهيم ومقولات تفسر الظواهر الاجتماعية والدينية، وترسم معالم مسيرته في الحياة الدنيا من خلال القوانين والنظم التي تطرحها.
وليس ضرورياً ان يلغي كل كتاب ماقبله، وانما يتواصل مع بعضها في القواسم المشتركة للرسالات، وتنسخ بعض الاحكام (عقوبة او رحمة)، وتستجد اخرى انسجاماً مع تطور الآفاق المعرفية للانسان الجديد.
ولم يختلف القرآن في صدقيته كمرجعية معرفية، عن الكتب المقدسة الاخرى، غير ان المجتمع الاسلامي استفاق في رحابه على آفاق متمادية بفضل توافر الخزين المعرفي للقرآن على مفاهيم ومقولات تفوق في سعتها ودلالاتها ما خلّفته الاديان السالفة بعد تعرّضها للتشويه الكبير بفعل التزييف والتحريف. لذا كانت انطلاقة المسلمين انطلاقة حضارية، بعد ان حطم القرآن الكريم السلطة المعرفية لثقافة وأفكار سكان الجزيرة العربية ومن حولها، ذات الاتجاهات العقيدية المختلفة. تلك السلطة التي كانت مرتهنة في بنيتها الى مفاهيم وتصورات مثقلة بالشرك وعبادة الاوثان والآلهة المصطنعة، وارسى محلها ركائز سلطة معرفية ترتكز الى التوحيد ونبذ عبادة الاصنام والطواغيت، وبهذا تخلّص المسلم من ثقل الاغلال التي طوقته بها تراكمات حضارات ما قبل الاسلام. فغدى في ظل مرجعيته الجديدة / القرآن يستشعر انسانيته ويعي دوره، فانطلق لبناء حضارة تستمد وجودها من القرآن، وتجدد نشاطها باستمرار بفضل شحنات الحياة المتدفقة اليها من مرجعية القرآن، تلك المرجعية التي لم تتخل عن الانسان في مسيرته الشاقة الا حينما تطمئن في ركونه الى العقل وعدم التسليم الى الخرافة والوهم. من هنا شارك العقل القرآن، وفق المنطق القرآني، في تكوين السلطة المعرفية للفرد المسلم، ولم يغادرا معاً، مالم يغادرهما الانسان بارادته، وحينها سيطوّق نفسه بازمة معرفية تتجاوز في تداعياتها دائرة الفرد لتلقي بظلالها على المجتمع، عبر تشوّهات سلوكية او نظرية.
لقد اعتمد القرآن العقل في مساحات واسعة، وركن الى مرجعيته لحل الاشكاليات التي كانت تعصف ومازالت بوعي المجتمع الجاهلي «أفلا يعقلون... أفلا يتفكرون... أفلا يتدبرون... أفلا يفقهون...».
ويبقى رهان القرآن على العقل رهاناً ناجحاً، وتكفي تراكمات الفكر البشري شاهداً على قدرته على التجرد والانطلاق في رحاب الآفاق المعرفية، لبناء نظريات ومعارف علمية طوّعت الطبيعة واخترقت الآفاق لخدمة البشرية.
فلا غرابة ان يمثل العقل الحجة الباطنة على الانسان ـ كما في بعض الروايات ـ بعد ان كان القرآن الحجة الظاهرة عليه. بل لا يمكن تجاوز العقل الى غيره من الادلة الشرعية في حالة تعارض غيره معه «فاذا تعارض الدليل العقلي مع دليل ما، فان كان الدليل العقلي قطعياً قدم على معارضه