مصادر نهج البلاغة(١)
الشيخ سليمان اليحفوفي (قدس سره)*
تمهيد البحث
ما خطر لي في يوم من الأيام أن أقف مستدلاً على نسبة نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام)، كما لم يخطر لي في بالٍ أن أستدلّ على أن القرآن هو كلام الله سبحانه. ولكن بدء وقوع الفِتن أهواءٌ تتبّع وآراءٌ تُبتدع، يتولّى فيها قوم قومًا، فيُمزج قليل من الحقّ مع كثير من الباطل فيأتيان معًا، هناك يضلّ مُرتاب ويُعاني محق.
لقد هوّن عليّ حَرَاجة الموقف أن الشُّبهات والشُّكوك أقدم تاريخًا من حياة الإنسان على الأرض. بل من المؤكّد أن الإيذان بخلقه سبّب أول شبهة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(٢). فتولد لديهم شبهة وهي كيف يجوز جعل خليفة في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء؟
ولعلّهم كانوا يحدّثون أنفسهم بأنهم أولى بهذا المنصب لاستمرارهم في الطاعة والعبادة، وقد ظهر هذا المعنى على ألسنتهم إذ {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}(٣) فينبغي أن نكون أولى من هذا الخليفة.
فكان لا بدّ من تخلّي الحقّ من الباطل لترتفع الشبهة، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}(٤)، فتقهقر الباطل وزهق، وظهر الحقّ، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إلا إبليس}(٥). وقد غاظه ظهور الحقّ، وامتنع عن السجود متلبسًّا بشبهة جديدة، وهي ادّعاء مزيد فضلٍ لنفسه على المسجود له، ولا يصحّ سجود الفاضل للمفضول، وتتضح الصورة في هذا الحوار: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(٦).