مصادر الالهام للفكر الاصولي
السيد محمد باقر الصدر
لا نستطيع أن نتوسع في دراسة مصادر الإلهام للفكر الأصولي ونكشف عن العوامل التي كانت تلهم الفكر الأصولي وتمده بالجديد تلو الجديد من النظريات، لأن ذلك يتوقف على الإحاطة المسبقة بتلك النظريات، ولهذا سوف نلخص فيما يلي مصادر الإلهام بصورة موجزة:
١ – بحوث التطبيق في الفقه، فإن الفقيه تنكشف لديه من خلال بحثه الفقهي التطبيقي المشاكل العامة في عملية الاستنباط، ويقوم علم الأصول عندئذٍ بوضع الحلول المناسبة لها، وتصبح هذه الحلول والنظريات عناصر مشتركة في عملية الاستنباط. ولدى محاولة تطبيقها على مجالاتها المختلفة كثيراً ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدة لها أثر في تعديل تلك النظريات أو تعميقها.
ومثال ذلك أن علم الأصول يقرر أن الشيء إذا وجب وجبت مقدمته، فالوضوء يجب مثلاً إذا وجبت الصلاة، لأن الوضوء من مقدمات الصلاة، كما يقرر علم الأصول أيضاً أن مقدمة الشيء إنما تجب في الظرف الذي يجب فيه ذلك الشيء ولا يمكن أن تسبقه في الوجوب، فالوضوء إنما يجب حين تجب الصلاة ولا يجب قبل الزوال، إذ لا تجب الصلاة قبل الزوال، فلا يمكن أن يصبح الوضوء واجباً قبل أن يحلَّ وقت الصلاة وتجب.
والفقيه حين يكون على علم بهذه المقررات ويمارس عمله في الفقه فسوف يلحظ في بعض المسائل الفقهية شذوذاً جديراً بالدرس، ففي الصوم يجد مثلاً أن من المقرر فقهياً أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب الصوم قبل ذلك، وكذلك من الثابت في الفقيه أن المكلف إذا أجنب في ليلة الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصح صومه لأن الغسل من الجنابة مقدمة للصوم، فلا صوم بدونه، كما إن الوضوء مقدمة للصلاة ولا صلاة بدون وضوء.
ويحاول الفقيه بطبيعة الحال أن يدرس هذه الأحكام الفقهية على ضوء تلك المقررات الأصولية، فيجد نفسه في تناقض، لأن الغسل وجب على المكلف فقهياً قبل مجيء وقت الصوم، بينما يقرر علم الأصول أن مقدمة كل شيء إنما تجب في ظرف وجوب ذلك الشيء ولا تجب قبل وقته. وهكذا برغم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع أن يراجع من جديد النظرية الأصولية ويتأمل في طريقة التوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي، وينتج عن ذلك تولد أفكار أصولية جديدة بالنسبة إلى النظرية تحددها أو تعمقها وتشريحها بطريقة جديدة تتفق مع الواقع الفقهي.
وهذا المثال مستمد من الواقع، فإن مشكلة تفسير وجوب الغسل قبل وقت الصوم تكشفت من خلال البحث الفقهي، وكان أول بحث فقهي استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن إدريس في السرائر، وإن لم يوفق لعلاجها.