السعادة كيف نجدها؟
الشيخ عيسى أحمد قاسم (البحرين)
كلنا يعيش معنى ارتكازيّاً للسعادة، وشعوراً لاهباً بالحاجة إليها، وهي تضع من نفس كل إنسان موقع الأمنية الاُولى والأكثر قيمة والأعز شأنا؛ لأنها الغاية من كل ما يتمناه ويطمح إليه. وما انشداده إلى أهدافه التفصيلية إلاّ من منطلق تصديقه بأدائها إلى سعادته. ومن وجد ما كان له أن يخطئها؛ كيف وهي تملأ عليه وجدانه وتفعم شعوره وتمور بها نفسه وجوداً قائماً حاضراً عنده في الذات؟!
وقد خلق الله تبارك وتعالى الناس للسعادة لا للشقاء، وللهناء لا للعذاب، (ولو شاء ربك لجعل الناس اُمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم...)(١). فللرحمة والسعادة، والهناء والنجاح كان خلق من مضى ويأتي من الناس. وهم منشدّون من أعماقهم إلى هذا الهدف الفطري الذي قد يصيبون حقيقته الكبرى، وقد لا يصيبونه، وقد يتخذون السبيل إليه سبيلا، وقد لا يتخذون ماهو سبيله لهم بسبيل، وإن خادعهم الرأي الكاذب، والشعور المنحرف بأنه كذلك.
ما هي السعادة؟
السعادة لغة خلاف الشقاوة، والسُّعودة خلاف النُّحوسة(٢).
وإذا أردنا تعمّقاً؛ فقد تطلق السعادة على حالة التوافق بين ما تشتهيه النفس وترغبه، وبين ما تعيشه وتجده من أوضاع مادية ومتطلبات جسدية، والشؤون القريبة منها كمواقع الاجتماع والسياسة والثناء عند الناس.
وقد تطلق في مرتبة أرفع على الكمال الفعلي للذات الإنسانية في أبعادها المعنوية، وشعور الذات بهذه الفعلية من الكمال وهي على مراتب بين السعادتين:
الرؤية الاُولى للسعادة ذات مدى قريب تعطي تركيزا على كماليات الحياة المادية وزينتها وألوانها ومرآئيها، وتنشدُّ إلى المنزل الفخم، والأثاث الجذّاب، والسيارة الأكثر شهرة ومتانة وحداثة، وتهتم بصحة البدن وقوّته، وعلى الموقع الاجتماعي المتقدم، والشهرة العريضة، والمركز السياسي المتفوق، والحفاوة والتقدير، وحسن المنظر، وجمال المرأى، واعتدال القوام، إلى ما إلى ذلك من أولاد وأزواج وعشائر وأنصار وأتباع وأملاك وترف وبحبوحة عيش.
وهذه الرؤية تستقطب من الناس أكثرهم، وتخلق في داخلهم سعار الشهوة للمادة إلى حد الجنون والصراع على المحدود من الكم المادي في الأرض حتى الاقتتال، وتقويض الأمن والسعادة بهذا المفهوم نفسه للناهب والمنهوب، ومن يغلب أو يُغلب ! إذ الدنيا كلها لا تروي عطش مجذوب إليها، منكّب على زينتها، ثم وهي بيده لا يأمن فواتها، وأن أحداً لا يغلبه عليها، ولذلك يحرسها بكل ماله من حيلة، وبفكره وشعوره وكدِّ أعصابه، وتحسّباته ومواجهته؛ فتستنزفه أكثر ممّا يستنزفها ويعطي من وجوده لحراستها أزيدها مما تعطيه، وربما كان صريع همّها، وضحية الحفاظ عليها، وكم يؤرقه في صراعه من دونها هاجس الخسارة، ويقضّ مضجعه خوف الفقر بعد الغنى، والذل بعد العزّ، والضعف بعد الظهور والمنعة، وأن الآخرين يستلبونه ودنياه يسرقون مجده وعزّه.