الفقه والفقهاء في مصر على عهد المماليك
(٢)
الشيخ عبد العزيز المراغي
عرضت في حديثي الماضي حول هذا الموضوع للظروف التي هيئت لمصر لتكون زعيمة العالم الإسلامي بعد سقوط بغداد، وتحمل راية الثقافة العلمية بعد أن فتن المغول المسلمين وشردوا البقية الباقية من علمائهم، وعفّوا على آثار الثقافة الإسلامية التي كانت ميراثاً ضخماً لأجيال وقرون أفنت زهرة العمر في تحصيلها، وعرضت للمماليك وبلائهم الحسن في الدفاع عن الإسلام، ولموقف العلماء والشعب إجمالا منهم.
واليوم نريد أن نعرض بشئ من التفصيل ـ بالقدر الممكن طبعا ـ لبعض هذه المواقف وأثرها على التشريع والتدوين الفقهي، وحركة التأليف بوجه عام، وأحب أن الاحظ بادئ ذي بدء أن الفقهاء كانوا في شئ من الحرج، وكان موقفهم في غاية من الدقة، إذ كان عليهم أن يلائموا بين شيئين:
١ ـ سلطان المماليك بعد أن أصبح صولجان الحكم في العالم الإسلامي تقريبا بيدهم، وقد كانوا كثرة يحسب حسابها، لا يتورعون من قتل أو نفي أو سلب أو كما يصفهم شوقي:
جنود وراء كبير لهم ****** من الدين قد جُردوا والخُلق
أتوا دارنا فمضى نصفهم ****** أزال العفاف ونصف سرق
وكان ذلك شأنهم فيما بينهم وبين أنفسهم، لا فرق في ذلك بين طبقة وأخرى من هذه الطبقات التي كان ينقسم إليها نظامهم.
ـ ما ورثه العلماء من ميراث السلف الصالح، وفي الحق أن مصر ظلت طول حياتها موالية للسنة ومذاهبها، وهؤلاء هم الفاطميون عاشوا ما عاشوا في مصر بكتبهم ودعاتهم وقضاتهم لم يستطيعوا أن يغيروا من ناحية الجوهر شيئاً من العقائد السنية، وما هي إلا أن زالت أيامهم ودالت دولتهم حتى رجع المصريون سيرتهم الاولى سنيين مخلصين.
وفي سبيل الملائمة بين هذين العاملين سارت الناحية العلمية بين المد والجذب، واختلف العلماء طرائق قددا: فريق لا يرى شيئاً من التساهل في سبيل سلطان المماليك الا إذا كان تحت شرع صريح يجيزه، وفريق كان يحاول الفينة بعد الفينة أن يجد طريقا هنا أو سبيلاً هناك من مستند شرعي ولو على تأويل ضعيف لتثبيت دعائم هذه الدولة التي أبلت البلاء الحسن، والتي كثيراً ما كان بعض سلاطينها يتظاهرون بغيرتهم على الفقه والشريعة والدين، بل كثيراً ما كان بعض سلاطينها يُجلسون للقضاء ويجلسون بعض القضاة معهم، كما كان