دور المسلم الرسالي في المهجر
إبراهيم بن علي الوزير
بعالمية الرسالة وتصوراتها الأساسية لعالم القيم، استطاع المهاجرون الأولون إلى الحبشة أن ينزلوا في قلوب أهلها، وقلوب أصحاب الحل والعقد فيها، فلم يعودوا منها إلاّ وقد دخل معظم أهلها في دين الله. كل ماكانوا يبحثون عنه في هجرتهم هو أن لايضاموا في إيمانهم، لأن الحرية للمسلم هي الرئة التي تتنفس منها عقيدته.
بهذه الحرية التي لاتعرف حدوداً ولا سدوداً يستطيع المسلم أن يشع على العالمين برحمة الاسلام، ويستطيع أن يحقق المعجزات لنفسه وأمته ولدنياه وآخرته. فبهذه الحرية التي ابتدأ الله بها خلق أبينا آدم ـ عليه السلام ـ يبتدئ بها كذلك اسلام الانسان حين يعلن تلك الشهادة التي تنفي كل الآلهة والمعبودات والأصنام والطواغيت والفراعنة وكل ما يستوجب الفرعنة من قوارين وهامانات ليسمو بكرامة العبودية الخالصة لله; تلك العبودية التي تتسع معها حريته اتساع الكون والتي يتحرر بها من كل قيد ليعلن ويلتزم بكل حرية المشيئة التي اختار حملها وألزم نفسه بالوفاء بتبعاتها.
بنعمة الحرية يستطيع المسلمون في مهاجرهم أن ينجوا من الضيم، وأن ينقذوا دنياهم وآخرتهم من لعنة الاستضعاف، ومن ظلم أنفسهم حين توفاهم الملائكة:
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض! قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا).
من أجل نعمة حرية المشيئة صارت الهجرة طاعة ووجوباً وسبيلاً للخلاص.
لكن نعمة حرية المشيئة التي أرادنا الله أن نهاجر في الأرض الواسعة، طلباً لها، لن تؤتي ثمارها المرجوة إذا اكتفينا من الهجرة بالسلبية وبالتقوقع على أنفسنا. إن السلبية والتقوقع لن يجعلا من شتاتنا هجرة في سبيل الله بل فراراً، ولن تكون لنا طاعة بل ضياعاً واستمرار لحالة الاستضعاف الأولى، وحملاً لجراثيم المرض الذي سببه فيروس الاستبداد: (واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) فلا خلاص لمن أصيبوا بفقدان المناعة ضد ميكروب وفيروس الطاغوت والطغيان إلاّ بأن يخلفهم جيل لديه المناعة ضد أي طاغوت وطغيان.
لقد علّمنا المهاجرون الأولون الذين لم يستسلموا قط لأي عسف وجبروت وطغيان، بل قاوموه بكل صلابة; منهم من استشهد تحت التعذيب ومنهم من هاجر حين دعى إلى الهجرة إلى الحبشة .. ثم إلى المدينة المنورة كيف تكون الهجرة اشعاعاً وتأثيراً وهدى، وكيف تكون جسراً إلى مستقبل أفضل. لقد علمونا بدمائهم وآلامهم وتضحياتهم كيف يكون المهاجر منهم ثغراً من ثغور الاسلام، فلا يؤتى الاسلام من قبله، وكيف يكونوا ايجابيين مع الحرية التي نعموا بها في مهاجرهم، فتجمعوا وتنظموا وفتحوا عقولهم لمن حولهم وصار كل واحد منهم منارة هدى ورحمة للناس جميعاً.