مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل البدء بالمباحث الفقهيّة نعرض لمطالب تتناسب وبداية الدروس الحوزوية.
كلّما زادت أهمية الدين في العالم زادت أهمية الحوزات، اليوم يبذل المفكرون والمختصون في القضايا الاجتماعية والسياسيون وكثير من الناس اهتماماً وعناية أكثر تجاه الدين، هذا الاهتمام نشأ إثر الحادث الذي حصل في العقدين الأخيرين، أي انتصار الإسلام وتشكيل النظام الإسلامي؛ ولذلك لا نجد دراسات للدين الحالي بمعزل عن جوانبه السياسية، وجميع المواقف تتّخذ بناءً على هذا الأساس، وما نشاهد في عالم اليوم من إقامة المؤتمرات التخصُّصية والعلمية لدراسة هذه الظاهرة يكشف عن أهمية هذه المسألة.
مركز هذه الاهتمامات هو الدين الإسلامي وبخاصة الجمهورية الإسلامية، ولذلك علينا بدء حركة جديدة في سلوكنا العلمي، اليوم ليس باليوم الذي يمكننا فيه النطق بكلام أو ترسيم هدف... لا يمكننا استخراجه من المعارف الإسلامية.
مركز هذه الاهتمامات هو الحوزات العلمية، بالطبع هذا ليس بمعنى لزوم عدم تفكير الآخرين في القضايا الدينية، وأنّه لا حقَّ لهم في النقاش فيها، بل المراد أنّه لا توجد وسائل التحقيق وآلياته في غير الحوزات العلمية، والغور في هذه القضايا بمستواها الاختصاصي خاص بالحوزات العلمية، كما هو حال الذي يريد أن يصبح طبيباً فعليه أن يدخل كلية الطب.
أهمية الحوزات ليس في تبليغ الدين فحسب، رغم أن هذا من وظائف الحوزة المهمة، لكن الأهم من ذلك التعليم العلمي والفني للمعارف الإسلامية.
ما هي المباحث التي ينبغي عدّها أصلاً؟ الجذور الأساسية في الحوزات هي: الفقه، والكلام، والفلسفة. الفقه هو العمود الفقري للحوزات، وعلم الكلام من أعمدة الحوزة المهمّة، والفلسفة من اللوازم الحتمية. بالطبع ينبغي أن تكون إلى جنب هذه العلوم علوم اُخرى مثل التفسير والحديث والرجال، التي هي مقدمات فهم الكتاب والسنة، وعلم الاُصول إلى جنب الفقه هو بمثابة المقدمة الحتمية واللازمة.
مضافاً إلى ذلك، ينبغي التعرّف على فنون تبليغ الدين، فالتبليغ اليوم يُعدُّ فرعاً واختصاصاً، وما لدينا من أساليب تقليدية للتبليغ غير كافية، وعلى مخرجو الحوزة العلمية أن يخططوا لإدخال بعض مباحث التواصل في المناهج الدراسية.
تعلم اللغات الأجنبية أمر ضروري، وعلى الطلاب أن يتعلّموا لغة أجنبية واحدة حيّة على أقلّ تقدير، ومن الضروري كذلك التعرّف على الأفكار الرائجة في العالم. فإذا أردنا ممارسة التبليغ بشكله الصحيح، وإذا أردنا أن نبيِّن النظريات الدينية وأن ندافع عن المعارف الإسلامية فمن المحتّم علينا أن نتعرّف على مستحدثات الأفكار والنظريات الرائجة في عالم اليوم.
بحث القداسة والمعنوية بحث مهم، وفرقنا مع الآخرين من جملة الرسائل هو أنّا نؤمن بهدف مقدس، نحن نسعى لاعتلاء كلمة الله، ومساعينا ينبغي أن تصبّ في هذا المجال، وهذه القضية ممَّا يمكن أن توفّقنا وتجعل من كلامنا جذّاباً يستقطب القلوب.
كتاب القصاص
البحث في كتاب القصاص عن جزاء التعرّض والاعتداء الجسمي الظالم، وبتعبير أدق: البحث في أحكام الاعتداء لا الجزاء فقط، أمّا التعرّض المالي والعرضي كالسرقة والقذف فممّا لا يُبحث في كتاب القصاص.
للتعرّض الجسمي أو الجسماني أحكام، منها: القصاص، أي العقاب المشابه الذي نبحثه فيما بعد، الحكم الآخر للقصاص هو إمكان عفو المعتدى عليه مجاناً أو مقابل دية.
في كتاب القصاص لا يُبحث عن القصاص فحسب، بل عن الدية والعفو وطرق إثبات الجريمة كذلك، لكن باعتبار أن عمدة المباحث في هذا الكتاب تدور حول القصاص، وهو من الأحكام المهمة جداً ويحضى بتشعّبات وفروع كثيرة، سُمّي هذا الكتاب (القصاص).
غالب المتأخرين منذ عهد المحقق فما بعده سمّوا هذا الكتاب بالقصاص، لكن من المتقدِّمين من الأصحاب مَن سمَّاه بكتاب الجنايات أو كتاب الجراح، كما أن المتعارف تسميته عند العامة هو كتاب الجنايات أو كتاب الجزاء أو كتاب الدماء أو كتاب الجراح.
وفي المقارنة بين محتوى هذا الكتاب في الفقه مع ما تعارف تسميته بحقوق الجزاء يمكننا القول إجمالاً: في حقوق الجزاء يوجد فصلان أساسيان، أحدهما: حقوق الجزاء العام، والآخر: الجزاء الخاص.
المباحث الكلية المطروحة في حقوق الجزاء العام التي تُدرَّس في الجامعات هي من قبيل معنى الجناية وملاكها ومعنى الجزاء وشرائطه، وفي الجزاء الخاص يُبحث عن خصائص الجريمة ومنها: الجزاء الخاص للجريمة.
إذن، النسبة بين كتاب القصاص وحقوق الجزاء الخاص هو عموم وخصوص من وجه، فقد تُطرح مباحث في كتاب القصاص لا تُطرح في الجزاء الخاص، وقد تُطرح في الجزاء الخاص مباحث لا تُطرح في كتاب القصاص، على سبيل المثال تُطرح الكثير من مباحث الجزاء العام في كتاب القصاص، كما أن كثيراً من المباحث المطروحة في الجزاء الخاص غير مطروحة في كتاب القصاص، لكنها مطروحة في كتاب الحدود. فالعقوبات المطروح بحثها في الجزاء الخاص ليست خاصة بعقوبات الجرائم التي ترتكب بحق الأشخاص، بل تشمل الجرائم التي ترتكب بحق المجتمع كذلك، والأخيرة تُطرح في كتاب الحدود عندنا، كما أنّ هناك بحوثاً مشتركة.
إذن، في كتاب القصاص تُطرح مباحث تخصُّ الاعتداء الجسمي على الغير بشكل خاص، كما تُطرح فيه بعض المباحث العامة من قبيل معنى قتل العمد والقتل شبه العمد وغير ذلك، مع أن هذه المباحث غير مطروحة في حقوق الجزاء الخاص.
لو كان بالإمكان دمج كتاب الحدود وكتاب القصاص الذي هو في العقوبات وكتاب الديات وتبويبها بالنحو الدارج في حقوق الجزاء العام والجزاء الخاص عُدَّ عملنا تقدُّماً كبيراً في مجال التبويب وتقسيم المباحث، وهو عمل لم يحصل بعد. وقد طرحتُ هذا؛ لأن فيكم فضلاء قد يفكر بهذا الموضوع بمعزل عن الدروس الحوزوية.
بالطبع، قام عبد القادر عودة بهذا العمل في كتابه: (التشريع الجنائي الإسلامي)، لكن عمله غير خالٍ عن العيوب، من قبيل أوّلاً: مؤلّفه ليس فقيهاً، بل خبيراً في الحقوق. ثانياً: لم يتعرض لآراء الإمامية التي غالباً ما تكون ناضجة.
على أي حال، بحثنا في القصاص بالنحو والترتيب الدارج في فقهنا، وقد اتّخذنا (الشرائع) للمحقق الحلي ـ رضي الله عنه ـ منهجاً لبحثنا، لكونه أفضل ترتيباً ونظماً ومنهجية، ورغم مضي ما يقرب من ثمانية قرون على تأليفه نرى فيه منهجية أفضل من المنهجية التي اعتمدها من لحقه مثل العلامة في (القواعد) والشهيد في (اللمعة) وكذا الآخرين.
والفائدة الاُخرى لانتخاب هذا المنهج هو وجود شروح مفيدة ومبسّطة وذات محتوى عميق من قبيل (الجواهر)، وهو في متناول أيديكم وبإمكانكم مراجعته، وشروح اُخرى كذلك.
وقبل الخوض بالبحث نتعرّض لمقدمات مناسبة لبحثنا ثم ندخل في صلب الموضوع، منها: معنى القصاص والاستعمالات الشرعية للمفردة وجذورها اللغوية، فإن إدراكها مفيد لنا.