النية
بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الصوم وفيه فصول: الفصل الأوّل: في النية.
مسألة ٩٧٠: يشترط في صحة الصوم النية على وجه القربة، لا بمعنى وقوعه عن النية كغيره من العبادات الفعلية، بل يكفي وقوعه للعجز عن المفطرات، أو لوجود الصارف النفساني عنها، إذا كان عازماً على تركها لولا ذلك، فلو نوى الصوم ليلاً ثم غلبه النوم قبل الفجر أو نام اختياراً حتى دخل الليل صح صومه، ويكفي ذلك في سائر التروك العبادية أيضاً. ولا يلحق بالنوم السكر والإغماء على الأحوط وجوباً)(١).
عرّف بعض الفقهاء(٢) الصوم بأنه عبارة عن الإمساك عن المفطرات على وجه القربة، ثم أخذ بذكر الإشكالات الواردة عليه، ولكن ذلك تطويل بلا طائل، وإتلاف للعمر العزيز بلا مبرر، فإن المعنى الإجمالي للصوم واضح لدى كلّ متشرع، وضبط تحديده على وجه الدقة لا داعي إليه، بعد عدم كونه محطاً للآثار الشرعية. والمقصود ليس محطاً بمعناه التفصيلي المحدد بنحو الدقة، وإلاّ فمعناه الإجمالي الواضح لدى الجميع هو محط للآثار كالوجوب مثلاً، حيث يجب الصوم كما قال تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٣)، وعليه فعدم الاشتغال بذكر التعريف أمر جيد وإن كان الجانب الفني يقتضي التعريف أولاً ثم الدخول في التفاصيل.
ثم إنه قد امتاز الصوم والصلاة عن بقية العبادات بكثرة الفروع المرتبطة بالنية، فخصص بحث مستقل يرتبط بذلك، ويقرب من ثلاث صفحات تقريباً، ولعله في الكتب المطولة الاُخرى كان البحث عن ذلك أكبر، وسوف نرى أن الأبحاث المذكورة جديرة بالتعرض إليها وتحقيق الحال فيها.
والنقاط التي تشتمل عليها المسألة المذكورة ثلاث:
النقطة الاُولى: يعتبر في صحة الصوم قصده على وجه القربى، ونتمكن أن نقول: إنّ النية المطلوبة في الصوم، بل وفي بقية العبادات تنحل إلى اُمور ثلاثة، وقد أشار السيد الماتن ـ قدس سره ـ إلى اثنين منها في العبارة ولم يشر إلى الثالث، وتلك الاُمور هي:
أ ـ قصد الفعل الخاص، فيشترط في باب الصوم قصد الصوم ونيته، ولكن لا بمعنى قصد عنوان الصوم، بل بمعنى قصد واقع الصوم، فلو قصد المكلف الإمساك الواجب شرعاً عن المفطرات كفى ذلك وإن لم يقصد عنوان الصوم، وهكذا لو قصد عنوان الواجب الثابت شرعاً وإن لم يقصده بعنوان الصوم ونحوه.
إذن هنا دعويان:
الاُولى: لا يلزم قصد عنوان الصوم.
الثانية: يكفي قصد واقع الصوم.
أمّا أنّه لا يلزم قصد عنوان الصوم، فلأنه لا دليل شرعي يدل على وجوب ذلك، بل الوجدان قاضٍ بخلافه، فلو فرض أن شخصاً كان جديد العهد بالإسلام، ولم يقصد عنوان الصوم، بل قصد واقعه كفى ذلك جزماً ولا يحتمل بطلان ذلك منه، وما دام لا دليل على وجوب قصده فنجري البراءة عن لزوم قصده.
وأمّا أنّه يلزم قصد واقعه، فباعتبار أنه لو لم يقصد ذلك ـ كما إذا قصد الإمساك عن الكلام قربة إلى الله تعالى واقترن ذلك اتفاقاً وصدفة بالإمساك عن جميع المفطرات ـ فلا يتحقق الامتثال ولا يصدق أنّه حقق الواجب، فإن تحقق الاُمور العبادية فرع قصدها، أمّا إذا لم تقصد رأساً فلا يصدق امتثالها.
ثم إنّه يوجد كلام في أنّه هل يلزم قصد عنوان صوم الكفارة أو القضاء أو شهر رمضان؟
وذلك ما سوف تأتي الإشارة إليه في المسائل المقبلة إن شاء الله تعالى، والآن نريد أن نقول: لا يلزم قصد عنوان الصوم، بل يكفي قصد واقعه، وقد أشار ـ قدس سره ـ إلى اعتبار قصد الصوم بقوله: (يشترط في صحة الصوم النية)، فإن المقصود من النية قصد الفعل، أي قصد الصوم، ولكن كما قلنا قصد واقعه ولا يلزم قصد عنوانه واسمه.
ب ـ يلزم قصد الصوم بنحو القربة، فقصد القربة هو الركن الثاني في النية، وقد أشار إليه السيد الماتن بقوله: (على وجه القربة).
ولماذا يلزم قصد القربة؟ لأنّ الصوم عبادة ولا تتحقق العبادة إلاّ بقصد القربة، ولكن هذا المقدار لا يكفي لقطع التساؤل، بل يبقى التساؤل مستمراً، فيقال: ما الدليل على أن الصوم عبادة؟ فإننا لو لاحظنا الروايات والآيات الكريمة لا نجد في شيء منها الإشارة إلى أن الصوم عبادة، ويعتبر فيه القربة، وعليه فما الدليل على ذلك؟
قد يقال ـ كما جاء في بعض كلمات السيد الخوئي ـ قدس سره ـ في باب الصوم(٤) ونحوها ـ: التمسك لذلك بالحديث المروي عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ حيث قال: ((بني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والحجّ، والصوم، والولاية))(٥)، بدعوى أنّ من البعيد بناء الإسلام على مجموعة أفعال من دون نية وقصد تقرب، فإنّه من دون النية يكون الفعل مجرد عمل خارجي لا يشتمل على روح، ومن البعيد أن الإسلام يبنى على أفعال شكلية خالية من الروح والمضمون، فإنّ مضمون العمل بالقصد والنية.
ولعلّ المناسب التمسك لذلك بارتكاز المتشرعة، فيقال: إنّ المرتكز في ذهن المتشرعة جميعهم من الصغير والكبير والعالم والجاهل ووو…، أن الصوم يعتبر فيه قصد القربة، وهذا الارتكاز ثابت في أذهانهم بشكل واضح جداً، ومن أين حصل هذا الارتكاز؟ إنه لابدّ له من سبب بعد استحالة صدور المعلول بلا علّة، ولابدّ أن هذا الارتكاز قد تلقاه كلّ جيل من الجيل المتقدم عليه، فنحن قد تلقيناه من الجيل المتقدم علينا، وهؤلاء حصّلوه من الجيل المتقدم عليهم، وهكذا حتى نصل إلى أصحاب الأئمة ـ عليهم السلام ـ وهم من أين حصّلوه؟ لابد أنّهم واجهوا جواًَ واضحاً في اعتبار قربية الصوم، ولأجل هذا الوضوح لم تعد حاجة إلى أن يتناقلوه على مستوى الرواية والسؤال من الأئمة عليهم السلام.
ولا يحتمل نشوء هذا الارتكاز من حديث: ((بني الإسلام على خمس))، ليقال: هو ارتكاز مدركي أو محتمل المدرك، ومعه لا يكون حجة بنفسه، بل تعود القيمة والاعتبار إلى المدرك، فمن ناقش المدرك وقال: إن حديث: ((بني الإسلام)) لا دلالة له على العبادية، فسوف تسقط الرواية والارتكاز معاً عن الاعتبار.
أمّا الارتكاز، فلأنه مستند إلى الرواية ولو على مستوى الاحتمال. وأمّا الرواية فلفرض ضعف دلالتها.
إنّ مثل هذا الكلام لا يتم باعتبار أنّ الارتكاز المذكور هو أوضح بكثير من رواية: ((بني الإسلام))، وبعد وضوحه بهذه الدرجة لا يحتمل استناده إلى مثل الرواية المذكورة التي دلالتها إن تمت فليست بذلك الوضوح.
ومن هنا يتضح مطلب كلّي يمكن الاستفادة منه في مجالات مختلفة، وهو أن الارتكاز المتشرعي إذا كان أوضح بكثير من المدارك المحتملة فيكون حجة؛ لأنّ أوضحيته قرينة على عدم استناده إلى المدارك المذكورة.
وبالارتكاز المذكور أيضاً نثبت عبادية الوضوء والصلاة والحج وما شاكلها من العبادات الواضحة، وإلاّ فكما قلنا لا دليل من النصوص على عبادية الاُمور المذكورة.
ونلفت النظر إلى أن الارتكاز شيء مغاير لسيرة المتشرعة، فهناك فرق بين سيرة المتشرعة وبين ارتكاز المتشرعة، ونحن نريد التمسك بارتكازهم لا بسيرتهم.