ما أكثر العبر وأقل الاعتبار. ( نهج البلاغة ٤: ٧٢)        أحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها. ( نهج البلاغة ٣: ٤٥)       صدر العاقل صندوق سره. ( نهج البلاغة ٤: ٣)        الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب. ( نهج البلاغة ٣: ٤٦)      الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق. ( نهج البلاغة ٤: ٩١)      
الدروس > بحث خارج > فقه > الزكاة الصفحة

وجوب الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الزكاة: التي وجوبها من ضروريات الدين ومنكره مع العلم به كافر[١]، بل في جملة من الأخبار: إنّ مانع الزكاة كافر).
الحمد لله وسلام على رسوله المصطفى وآله الأطهار.
وقد شرعت فيه كتعليق استدلالي على (العروة) في يوم الجمعة المصادف لليوم ٢٦ من ربيع الثاني من سنة ١٤١٦ الهجرية القمرية رغم تشويش البال وتراكم الأمراض عليّ وأهمّها الصداع الذي لم يبقِ لي راحة، وإنّي أعوذ بالله من تدخل أمر غير قربي في هذا العمل؛ لأنه بعد اشتماله على المشقة البالغة نتيجة الأعراض والأمراض والمحن لو فسد بنقص في القربة أصبح لي شقاءً لا مثيل له.
((إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق فمن السالك بي إليك في واضح الطريق، وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى. إلهي هذه أزمّة نفسي عقلتها بعقال مشيئتك، وهذه أعباء ذنوبي درأتها بعفوك ورحمتك وهذه أهوائي المضلّة وكلتها إلى جانب لطفك ورأفتك))(١).
وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً)(٢).
وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب.
[١] إن الأموال العامّة التي تستفيد منها الحكومات البشرية تكون عادة على ثلاثة أقسام:
١ ـ ما يخصص للحكومات من الثروات الطبيعية.
٢ ـ ما يؤخذ بالحرب والنهب من الأعداء.
٣ ـ ما يؤخذ من الضرائب من الاُمة.
وحكومة الإسلام لم تكن بعيدة عن أصل هذا المنهج، ولكن بعد تهذيبه وبرمجته وفق مفاهيم الإسلام ومتبنياته وأهدافه.
فما يكون من قبيل الأول يعبّر عنه عادة بالأنفال، وما يكون من قبيل الثاني يشار إليه عادة بعنوان غنيمة الحرب أو ما صولح عليه أو نحو ذلك، فغنيمة الحرب تستأثر بها الحكومة الإسلامية تماماً في بعض الفروض، وتأخذ بقسم منها مع تقسيم الباقي بين المقاتلين في بعض فروض اُخرى. وما يكون من قبيل الثالث فمصداقه البارز هو الزكاة ثم الخمس.
ومنكر الزكاة هو على حدّ منكر سائر الضروريات حينما ينتهي إنكاره إلى إنكار الإسلام يصبح كافراً ومرتدّاً عن الإسلام.
وأصل وجوب الزكاة لا إشكال فيه، وقد قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣).
ولكن يقع الكلام في أنّه هل هناك واجب ماليّ آخر في أصل الإسلام غير الزكاة والخمس يسمّى بحقّ الحصاد أو بالحقّ المعلوم أو لا ؟ والأصل في افتراض وجود واجب ماليّ بأحد العنوانين أو بكليهما هو آيتان قرآنيتان أو ثلاثة:
١ ـ قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(٤).
٢ ـ قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(٥).
ويشبه هذه الآية قوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(٦).
ولنبحث أولاً الآية الاُولى، وهي قوله: (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، وقد يأتي فيها احتمالات ثلاثة:
أحدها: أن تكون هذه الآية ناظرة إلى نفس الزكاة لا إلى شيءٍ آخر غيرها، والآية تعني: أن وقت أداء الزكاة هو وقت الحصاد.
ولو وقع الاستغراب عن ذلك باعتبار أن الآية وردت في سورة الأنعام والتي هي تعتبر مكّية، في حين أن تشريع الزكاة رسمياً كان في سورة التوبة والتي نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، فورد فيها قوله سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم).
قلنا: من المعقول افتراض الآية الاُولى الواردة في سورة الأنعام من إرهاصات حكم الزكاة، أو تدرّجاً في حكم الزكاة، فأوجب الله أولاً حقّ الحصاد كصورة مخفّفة عن الزكاة، ثم عيّن حقّ الحصاد في السنة التاسعة من الهجرة في مبلغ الزكاة المعروفة، وذلك سنخ ما حصل من التدرج في تحريم الخمر.
ويقول البعض(٧): إن التدرج الذي وقع في تحريم الخمر كان كالتالي:
نزلت أولاً آية مكية جعلت السكر في مقابل الرزق الحسن، وهي قوله تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً)(٨)، فالآية تشير إلى أن السكر ليس رزقاً حسناً.
ثم نزلت في المدينة الآية التالية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)(٨)، فهذه الآية وضّحت أن الخطر الموجود في الخمر أكبر من النفع الموجود فيه من دون أن تصرّح بالمنع الباتّ عنه.
ثم نزلت آية تحريم الدخول في الصلاة مع السكر، وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ)(١٠).
ثم نزل التحريم الباتّ بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)(١١).
ومن الطريف ما جاء في (تفسير المنار)(١٢) الذي هو تفسير سنّي نقلاً عن مصادر كلها سنّية وهي: (مسند أحمد) و (سنن أبي داود) والنسائي والترمذي ومفاده ما يلي: إن عمر بن الخطاب كان يشرب الخمر وكان يدعو الله قائلاً: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فلما نزلت آية البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) قرأها عليه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فاستمرّ عمر على شربه وعلى دعائه قائلاً: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، ولمّا نزلت بعد ذلك آية النساء: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى) قرأها عليه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فبقي مستمراً على عمله وعلى دعائه إلى أن نزلت آية المائدة، فدعي وقُرئت عليه فلما بلغ قوله الله تعالى: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) قال: انتهينا انتهينا.

(١) البحار ٩٤: ٢٤٣، ٢٤٥ / ١١.
(٢) النور: ٢١.
(٣) التوبة: ١٠٣.
(٤) الأنعام: ١٤١.
(٥) المعارج: ١٩ ـ ٢٥.
(٦) الذاريات: ١٩.
(٧) راجع: تفسير نمونة ٥: ٧٠ ـ ٧٣.
(٨) النحل: ٦٧.
(٩) البقرة: ٢١٩.
(١٠) النساء: ٤٣.
(١١) المائدة: ٩٠ ـ ٩٢.
(١٢) تفسير المنار ٧: ٥٠.