لا تظنن بكلمة خرجت من أحدٍ سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتملاً. ( نهج البلاغة ٤: ٨٤ )        أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال. ( نهج البلاغة ٣: ٣٩)      إياك ومصادقة الكذاب فإنّه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب. ( نهج البلاغة ٤: ١١)      اتقوا ظنون المؤمنين، فإن الله تعالى جعل الحق على ألسنتهم. ( نهج البلاغة ٤: ٧٣)        لا تظلِم كما لا تحب أن تُظلَمَ. ( نهج البلاغة ٣: ٤٥)      
الدروس > بحث خارج > فقه > القضاء الصفحة

شرائط القاضي وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة (٩): (إذا لم يكن في البلد مجتهد يترافعون إليه، يجوز لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد من أهل العلم الفصل بين المتنازعين من باب الأمر بالمعروف إذا حصل له العلم القطعي بكون الحق لأحدهما من القرائن أو شهادة جماعة من غير العدول يحصل من شهادتهم العلم، بل وكذا إذا شهد عنده عدلان بناءً على عموم حجية البينة لكل واحد ولكن لا يجوز له تحليف المنكر إذا لم يكن علم ولا بينة لأنه من وظيفة المجتهد، وحينئذٍ فله السعي في إيقاع الصلح بينهما، ومع عدم رضى المدعي إلا بحلف المنكر قد يتخيل جواز إيقاع الصلح بينهما، بجعل الحلف عوضاً عن حق المدعي بأن يصالح عن حقه بحلف المنكر أو بشيء جزئي ويشترط عليه أن يحلف وحينئذٍ فيسقط دعواه بالمصالحة، ولكنه مشكل، لأن العوض في الصلح أو الشرط فيه لابد أن يكون مما يمكن أن يملكه المصالح ويستحقه وباعتقاد المدعي المنكر كاذب، وحلفه حرام، فلا يصلح للعوضية، ولا يمكن أن يملكه عليه من غير فرق بين أن يكون المنكر عالماً عامداً أو كان معذوراً في حلفه لجهل أو نسيان، لأنه يكفي في عدم استحقاق المدعي له كونه حراماً، وهذا بخلاف تحليف الحاكم للمنكر فإنه ليس عالماً بكذبه مع أنه لا يلزمه بالحلف إذ هو مخير بين أن يحلف أو يقر أو ينكل أو يرد على المدعي مع أنه ورد التعبد به. نعم لو صالحه على وجه لم يكن عوضاً ولا شرطاً بحيث يكون ملزماً به لا مانع منه، كما إذا قال: صالحتك عن حقي بورقتين، مثلاً بشرط أن يكون لي الفسخ إن لم تحلف ببراءتك. إذ حينئذٍ لا يكون ملزماً بالحلف إذ له أن يقضي عنه بالإقرار أو النكول، وعليه فإذا حلف لزمت المصالحة وسقط حق المدعي، بل لو انكشف بعد ذلك كذبه وكون الحق من المدعي لم يكن له المطالبة إلا أن يكون قد اشترط عليه في الصلح أن يكون له الفسخ على تقدير كشف الحال بأن يقول صالحتك عن حقي بكذا بشرط أن يكون لي الفسخ إن لم تحلف أو انكشف كونه كاذباً. هذا إذا كانت الدعوى على وجه الجزم بأن يكون المدعي جازما بالحق وأن المنكر كاذب، وأما إذا كانت ظنية ومن باب التهمة بناء على سماعها فلا مانع من جعل الحلف عوضاً في الصلح أو شرطاً فيه لعدم علمه حينئذٍ بكون المنكر كاذباً. وكون حلفه حراماً فيصح إلزامه به بعد ادعائه صدقه فيه، ويمكن استحقاقه عليه. نعم إذا انكشف بعد ذلك كذبه انكشف بطلانه إذا جعل عوضاً لتبين كونه غير صالح للعوضية لحرمته ويثبت له الخيار في الفسخ إذا كان العوض غيره، وجعل شرطاً لتبين كونه حراماً، ويمكن الفصل بالحلف بغير المصالحة أيضاً بأن يقول المدعي: إن حلفت فأنت بريء بناء على صحة الإبراء المعلق وعدم كون التعليق مضراً فيه؛ هذا كله إذا أريد سقوط الدعوى بحيث لم يبق للمدعي حق شرعاً بعد الحلف، وأما إذا كان بناء المدعي على رفع اليد عن حقه إذا حلف المنكر وأن لا يدعي عليه، وإن كان له ذلك شرعاً فلا حاجة إلى الصلح ونحوه فيقول له: إن حلفت لا أطالبك بعده. فلا مانع منه إذا لم يقصد به الحلف القاطع للخصومة الذي هو وظيفة المجتهد).
حيث كان لابد من الاجتهاد في القاضي، فمع عدمه تنفتح هذه المسألة، إذ حكم غير المجتهد لا يكون نافذاً، لأنه ليس منصوباً شرعاً للقضاء، فتصديه يكون حراماً، والتحاكم لديه تحاكم لدى الطاغوت، وهو غير جائز، فينبغي مع فقد المجتهد رفع الخصومة عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصالحة، وهذا ما اقترحه السيد الماتن (قده).
وحكم غير المجتهد هنا لا يكون نافذاً بمعنى الحكم القضائي، بل هو أمر بالمعروف لعلمه القطعي بأن هذا المال مثلاً ليس لفلان، فيمكنه من باب الأمر بالمعروف إجبار الممتنع على أداء الدين مثلاً منعاً من وقوع الحرام. هذا مع علمه بالحال، أو مع قيام البينة - بناءً على أن البينة لا تختص حجيتها بالمجتهد - ولكن لا يجوز له تحليف المنكر مع فقد العلم والبينة لأن حجية الحلف من مختصات باب القضاء، والفرض في مسألتنا أن المتصدي ليس قاضياً شرعياً.
ثم يذكر (قده) مسألة المصالحة وتفريعاتها، وهذه مسألة مستقلة يأتي الكلام فيها.
أما ما يذكره (قده) من إمكان فصل النزاع عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو إنما يصح فيما لو تحققت شرائط باب الأمر بالمعروف، حيث قد ذكر في محله: ان إحدى تلك الشرائط معلومية المعروف والمنكر، وهنا إنما تكون تلك الأدلة شاملة للمقام فيما لو كان المنكِر عالماً بأن هذا المال ليس له ومع ذلك يتعمد عدم رده لصاحبه، أي فيما لو تحقق موضوع المنكَر خارجاً، أما لو اعتقد المنكِر بأن هذا المال له ولو من باب الجهل المركب فلا يكون عمله منكراً ولا يعود هناك مجالٌ لجريان أدلة باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى في صورة علم المتصدي غير المجتهد بالواقع، وأن هذا المال ليس له بل للمدعي، وبعبارة أخرى: ان المنكِر هنا يكون معذوراً في إنكاره ولا يعدّ عاصياً، ولذا لا تشمله أدلة النهي عن المنكر. هذا ما كان ينبغي للسيد الماتن (قده) الإشارة إليه. نعم يمكن للعالم هنا إرشاد الجاهل إلى الواقع مع حجية الإرشاد عليه بأن يحصل له العلم من قوله.
هذا مضافاً إلى أنه لما كان باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطاً بشروط كثيرة غير هذه فلا يمكن فصل الخصومة من هذا الباب، لأن من شرائطه الأخرى مثلاً القدرة وقد لا تكون موجودة، أو قد تستلزم مشكلات أخرى مما يسبب أضراراً متعددة فلا يصلح باب الأمر بالمعروف طريقاً لفصل الخصومة كما هو الحال في باب القضاء.
هذا بحث مع السيد الماتن، وهناك بحث آخر معه في أصل هذه المسألة بشكل كبروي، وكان من المفروض أن يخصص له مسألة على حدة، وهي أنه مع تعذر المجتهد في بلد فهل يتعطل باب فصل الخصومة والقضاء ويُرجع فقط إلى باب الأمر بالمعروف والمصالحة وما شابه، أولا بل مع تعذر المجتهد لا يعطّل باب القضاء، لأننا نعلم بأن القضاء من الأبواب التي لا يرضى الشارع بتعطيلها بل تتبدل الشرائط فيه؟
وهذه المسألة ينبغي أن تطرح وتبحث سواء في صورة بسط اليد، أو عدمها، ففي الصورة الثانية: هل يعطّل باب القضاء مع عدم وجود المجتهد، أو أنه يستفاد من الأدلة اللفظية أو اللبية عدم تعطيله، بل يبقى هنا قاض شرعي – وهو من يكون مثلاً من أهل العلم ولكنه غير مجتهد – فيقضي بين الناس عن تقليد واعتماد على فتاوى مجتهدٍ ما، فيسقط شرط الاجتهاد، فهل يمكننا استفادة سقوط شرطية الاجتهاد لتعذر المجتهدين، أو لا بل أن هذا الشرط باقٍ وباب القضاء هو الذي يتعذر ويتعطل ثم ينفتح باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصالحة وغيرها؟
ظاهر الماتن هو الذهاب إلى الرأي الثاني وتعطيل باب القضاء لأنه ولاية، ولم يتم نصب غير المجتهد فيعطل ويرجع إلى أبواب أخرى كالأمر بالمعروف والمصالحة.
وكذا في الصورة الأولى - صورة بسط اليد وقيام الحكومة الإسلامية - فإن هذه المسألة من المسائل المهمة والتي هي محل للابتلاء، فإذا كان الاجتهاد شرطاً شرعياً في القاضي - كما هو المشهور - ولم يكن هناك مجتهدون، أو لم يكونوا بقدر الكفاية، فهل يمكن لولي الأمر ولو من باب التعذر وانسداد باب المجتهدين أن ينصب غير المجتهد لتولي القضاء، أو يقال بتعطيل باب القضاء ويرجع إلى غيره كما ذكرنا؟
فهذه مسألة مهمة ينبغي أن تبحث بشكل أساسي قبل مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصالحة.