تمهيد
وجه اختيارنا كتاب القضاء
بعد التفكير الكثير بدا لي أن أختار كتاب القضاء لجهتين:
الأولى: أنّ مسائله كثيرة الابتلاء في هذه الأيّام.
الثانية: يستفاد من الفترات التي خلت من ابتلاء الناس بقضايا القضاء أنّ علماءنا كان لهم اهتمام غزير بهذا الكتاب وكذلك بالشهادات، مثلاً في عهد صاحب (الجواهر) خصّص المؤلف مجلّداً للقضاء والشهادات من بين ثلاثة وأربعين مجلّداً، ومن بعده زاد الاهتمام بشدّة بهذا الكتاب، وقد استلم زمام اُمور الحوزة من بعد صاحب (الجواهر) الشيخُ الأنصاري قدّس سرّه، وكتبه معروفة، مثل (المكاسب) و(الرسائل)، وله مجلّد في القضاء. وكذا المرحوم الحاج ملاّ علي كني ـ قدّس سرّه ـ تلميذ الشيخ الجواهري له كتاب مفصّل في القضاء. وللشيخ الأنصاري تلاميذ لهم كتب في القضاء قد طُبعت.
إنَّ البعض مثل الآخوند ثمّ حسين قلي الهمداني الجزيني ـ قدّس سرّه ـ الذي كان معروفاً بالكشف ومن أساتذة العرفان، وما كنّا نظنّه يحمل هذا المستوى من المهارة الفقهيّة، قد كتب مجلّدين في القضاء، قال فيهما: إنّهما تقريرات لدروس الشيخ الأنصاري. وكذا المرحوم حبيب الله الرشتي ـ قدّس سرّه ـ له كتاب في القضاء لا توجد إشارة إلى كونه تقريرات الشيخ الأنصاري، إلاَّ أنّ الظاهر أنّه كذلك.
وللمرحوم الحاج ميرزا حسين الاشتياني ـ قدّس سرّه، صاحب كتاب (بحر الفرائد في شرح الرسائل) ـ كتاب مستقلّ في القضاء، وهو كذلك لم يُشر فيه إلى أنّه تقريرات دروس الشيخ الأنصاري، لكن الظاهر هو كونه تقريرات دروس الشيخ الأنصاري الأعظم.
استمرّت الكتب والتقريرات إلى عهد الشيخ ضياء الدين العراقي قدّس سرّه، فهو صاحب كتاب في هذا المجال، ورغم أنّه مختصر لكنّه دقيق ومفيد. وكذا حال المتأخّرين عنه من الأعلام. وقد طرحت مسألة القضاء والشهادات في كتاب (مباني تكملة المنهاج).
هذه مجموعة الكتب التي في متناول أيدينا.
وهناك كتاب للمرحوم السيد محمد كاظم اليزدي صاحب (العروة) فقد تناول هذا الموضوع في تتمّة العروة في الجزء الثاني والثالث منه، وهو كتاب نصف استدلالي، كما أنّه كتاب مفيد جدّاً من حيث إنّه يتعرّض إلى بعض الاستدلالات، رغم أنّها غير كاملة.
أمّا المنهج الذي نعتمده هنا فهو نصوص (تحرير الوسيلة) للإمام الخميني رحمه الله، كما كان منهجنا في البحوث السابقة، وسنقوم بشرح نصوصها على قدر الإمكان وحسب إرادة الله تعالى.
ولأجل أن لا تخلو جلستنا اليوم من نصوص دراسيّة نأتي ببعض الجمل هنا، ونأمل التتمّة يوم غدٍ إن شاء الله.
معنى القضاء لغةً واصطلاحاً
يقال في باب القضاء: إنّ هذه المفردة تصحّ بالمدّ والقصر من الناحية اللغويّة، وشأنها شأن مفردة (بكاء) فيصح (بُكاء) و(بُكا)، لكن في البكاء مراتب؛ فإذا اشتدّ استخدمت فيه المفردة ممدودة، وذلك من باب (زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني)، إلاّ أنّ المعنى الاصطلاحي للقضاء ـ الذي سيأتي إن شاء الله ـ لا يتصوّر فيه المراتب؛ لأنّه لا تُتصوّر المراتب للخصومة.
القضاء لغةً
إنّ القضاء لغةً يختلف عنه اصطلاحاً؛ فالقضاء لغةً ذو معانٍ متعدّدة قد تصل إلى عشرة، كما يقول صاحب (الجواهر).
وقد استخدمت هذه المفردة في القرآن بعدّة معانٍ، فتارة بمعنى الحتميّة، وتارة بمعنى الخلقة، واُخرى بمعنى الأمر.
ففي الآية: (وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ)(٢) (قَضَى) تعني (أَمَرَ).
وفي مورد آخر جاءت مع مفعولها (وَطَر)، مثل الآية التي حكت قصة زيد: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا)(٣).
وهناك آيات اُخرى احتوت على هذه المفردة، مثل الآية التالية: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)(٤) أي (خَلَقَهُنَّ). وفي الآيات التي حكت قصة موسى وشعيب ـ عليهما السلام ـ عندما جاء موسى مع بنات شعيب، وبعدما أشادتا بمساعدة موسى في سقي الخِراف آجر شعيبٌ موسى مدّة ثماني سنوات، وإذا بلغن عشرة فذلك أفضل.
والمهم أنّ الآيات استخدمت فيها مفردة القضاء مرّتين:
أحداهما هنا: (أيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ)(٥).
والأخرى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ)(٦).
فإنّ المعنى المراد في الموردين مختلف، فمعنى إحداهما: الفراغ، ومعنى الأخرى الإتمام، ففي الأُولى تعني الإتمام، وفي الثانية تعني الفراغ.
القضاء اصطلاحاً
وللقضاء معانٍ مصطلحة كذلك، فقد نستعمله في مجال الدَين ونقول: (قضى دَينه)، وقد نستعمله في مجال الصلاة ونقول: (أداء الصلاة وقضاء الصلاة).
وسنعرض لهذه المعاني غداً إن شاء الله؛ لنعرف هل أنّها ترجع لمعنىً واحد أم لا؟ وهل هي مثل مفردة (العين) أم لا؟ مع العلم أنّ منهجنا هو (تحرير الوسيلة).