حـدّ الـزنـا
بسم الله الرحمن الرحيم
( كتاب الحدود. وفيه فصول: الأوّل: في حــدّ الـزنـا.والنظر فيه في: الموجب، وما يثبت به، والحدّ، واللواحق).
قد ترك ذكر التعزيرات في عنوان الكتاب، كما في (القواعد)(١) و(التحرير)(٢) و(اللمعة)(٣)، ولكن العنوان المذكور في (الشرائع) هو: (كتاب الحدود والتعزيرات)(٤). والجميع مشترك في التعرّض لموجبات التعزير ومسائله بعد مسائل الحدود.
وعليه فيمكن الاستشكال على الطائفة الأُولى بأنّه بعد تخصيص عنوان الكتاب بالحدود لا مجال للتعرّض لمسائل التعزير، مع أنّ الحد مقابل للتعزير.
ولكنّه يدفعه أنّ الحدّ تارة يذكر في مقابل التعزير، وأُخرى في مقابل عناوين سائر الكتب; كالبيع والإجارة والإرث ونحوها. ففي الصورة الأُولى لابدّ بمقتضى المقابلة من ثبوت المغايرة، وفي الصورة الثانية يشمل التعزير أيضاً، وهذا كما في عنواني (الفقير) و(المسكين)، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. ومن المعلوم أنّ جعل العنوان (كتاب الحدود) إنّما هو في مقابل عناوين سائر الكتب، لا في مقابل التعزير.
وتوجد الصورتان في الروايات، ففي بعضها جعل الحدّ مقابلا للتعزير كما سيأتي نقله، وفي بعضها اقتصر على ذكر الحدّ مع كون المراد هو الأعمّ.
ففي رواية حنّان بن سدير قال: قال أبو جعفر ـ عليه السلام ـ: ((حدٌّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة وأيامها))(٥).
وفي رواية السكوني عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال: ((قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً))(٦).
ومن الظاهر أنّ المراد بالحدّ في مثل الروايتين هو الأعمّ من التعزير. هذا مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ التعرّض لمسائل التعزير وقع من باب المناسبة من دون أن تكون من المسائل الأصليّة للكتاب.
معنى الحد والتعزير لغةً
ثمّ إنّ الحدود جمع (حدّ) وهو لغة ـ كما في (المسالك) وغيرها ـ بمعنى المنع(٧). كما أنّ التعزير بمعنى التأديب.
ولكنّه ربّما يقال بأنّ شأن اللغوي بيان موارد الاستعمال، واستعمل الحدّ في: الحاجز بين شيئين، ومنتهى الشيء، والدفع والمنع، وتأديب المذنب بما يمنعه وغيره عن الذنب، وتمييز الشيء عن الشيء، وغير ما ذكر.
ولكنّ الظاهر عدم كونها معاني مختلفة، لاشتراك الجميع في جهة المنع كما لا يخفى. كما أنّ منه الحديد ؛ لامتناعه وصلابته. ويقال للبوَّاب: حدّاد؛ لمنعه الناس. كما أنّ منه الحدّ الشرعي ؛ لكونه ـ كما في (المسالك) وغيرها ـ ذريعة إلى منع الناس عن فعل معصية خشية من وقوعه، أو لعدم جواز التعدّي عنه، وممنوعيّة الزيادة والنقيصة كما ربما يحتمل. ويؤيّده إطلاق الحدّ في مثل الوجه في باب الوضوء، وفي مثل الكرّ، فتدبّر.
معنى الحد والتعزير شرعاً
ثمّ إنّه فسّر الحدّ شرعاً بأنّه: عقوبة خاصّة تتعلّق بإيلام البدن بواسطة تلبّس المكلّف بمعصية خاصّة، عيّن الشارع كميَّتها في جميع أفراده.
والتعزير كذلك بأنّه: عقوبة أو إهانة لا تقدير لها بأصل الشرع(٨)، أو مع إضافة قيد الغلبة.
وقد ذكر المحقق في (الشرائع) في مقام بيان الضابطة للحدّ والتعزير : أنّ كلّ ماله عقوبة مقدّرة يسمّى حدّاً، وما ليس كذلك يسمّى تعزيراً(٩).
والمسامحة فيه واضحة، لأنّ المراد من (ما) الموصول هو مثل شرب الخمر والزنا والأُمور الموجبة للتعزير، مع أنّ الحدّ والتعزير عبارة عن العقوبة المترتّبة عليه، كما لا يخفى.
وأورد على هذه الضابطة الشهيد الثاني ـ قدس سره ـ في (المسالك) بقوله: (تقدير الحدّ شرعاً واقع في جميع أفراده كما أشرنا إليه سابقاً، وأمّا التعزير فالأصل فيه عدم التقدير، والأغلب من أفراده كذلك، ولكن قد وردت الروايات بتقدير بعض أفراده، وذلك في خمسة مواضع:
الأوّل: تعزير المجامع زوجته في نهار رمضان، مقدّر بخمسة وعشرين سوطاً.
الثاني: من تزوّج أمة على حرّة ودخل بها قبل الإذن ضُرب اثنا عشر سوطاً ونصفاً، ثُمن حدّ الزاني.
الثالث: المجتمعان تحت إزار واحد مجرّدين، مقدّر بثلاثين إلى تسعة وتسعين على قول.
الرابع: من افتضّ بكراً بإصبعه، قال الشيخ: (يجلد من ثلاثين إلى سبعة وسبعين)(١٠). وقال المفيد: (من ثلاثين إلى ثمانين)(١١). وقال ابن إدريس: (من ثلاثين إلى تسعة وتسعين)(١٢).
الخامس: الرجل والمرأة يوجدان في لحاف واحد وإزار مجردين، يعزّران من عشرة إلى تسعة وتسعين، قاله المفيد(١٣). وأطلق الشيخ التعزير(١٤)، وقال في (الخلاف): (روى أصحابنا فيه الحد)(١٥).
ولقائل أن يقول: ليس من هذه مقدّر سوى الأوّلين، والباقي يرجع فيما بين الطرفين إلى رأي الحاكم، كما يرجع إليه في تقدير غيره وإن تحدّد في طرفيه بما ذكر)(١٦).