تعريف القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب القصاص)
البحث في هذا الكتاب عن المقابلة بالمثل بالقتل أو القطع, وفي الضرر على النفس أو الأعضاء والأطراف. وفي كتاب الديات عن المال المسمّى بالدِيَة أو الأرش الجابر للخسارة والضرر عليهما أو على منافعه. فالبحث هنا عن الجزاء والعقوبة، وفي الديات عن الجبران للخسارة كالضمان بالمثل أو القيمة في الأموال.
وبذلك يظهر دخل المعصية والعمد في القصاص دون الدية, فموجبها الضرر بما هو ضرر من دون دخل للمعصية وإنْ كانت موجودة في بعض مواردها, كدية الولد على الوالد فيما لو كان هو القاتل له.
فالقصاص والدية يفترقان عن الآخر بوجوه ثلاثة:
١ـ من كونه عقوبة وكونها جبران الخسارة.
٢ـ ومن اشتراطه بالعصيان دونها.
٣ـ ومن ترتُّب آثار الجزاء على القصاص وآثار الدين على الدية, كانتفاء الأول بموت الجاني, وبقاء الدية في قتل الخطأ مع موت القاتل فيما لو كانت على عهدته, فضلاً عمّا لو كانت على العاقلة.
ومن ذلك يظهر أنَّه ينبغي البحث عن كلٍّ منهما منفرداً عن الآخر كما فعله جلّ العلماء وأعاظمهم في كتبهم القيّمة كـ(المقنع)(١) و(المقنعة)(٢) و(الانتصار)(٣) و(النهاية)(٤) و(الوسيلة)(٥) و(الشرائع)(٦) و (التحرير)(٧) وغيرها، فقد عبّروا بالجنايات والديات, أو بالقصاص والديات, أو أحكام القتل والقَوَد والدية, وأمثال ذلك مما يدلّ على الافتراق. ولا دلالة على كون دية القتل في بعض تلك العبائر هي الجزاء والعقوبة; لعدم دلالة الدية على الأزيد من الضمان، ولذكرهم العقوبة مثل التعزير والكفّارة مضافاً إليها فيما يوجبها كقتل الوالد ولده.
نعم، في عبارة (القواعد) إشعار بعدم التّفاوت بينهما وأنَّ الديات من العقوبات أيضاً، ففيه: (كتاب الجنايات. وفيه قطبان: الأوّل: في القصاص). وجعل الثاني منهما في الديات. ففي جعله ـ رحمه الله ـ قطبين لكتاب الجنايات الظاهرة في المعصية إشعار ـ بل ظهور ـ في كونها عقوبة عنده كالقصاص. لكنّ بالتدقيق في العبارة نستفيد خلافه، فإنَّ الدية مترتّبة على المعصية في الجرح غير القابل للقصاص، وعلى غيرها كالخطأ.
ومراده من جعله الدية في الجنايات أنَّها حكم لها ومترتّبة عليها أيضاً كترتّب القصاص في موارده. وأمّا أنَّ ذلك الحكم والترتّب في الجنايات من باب العقوبة أو الضمان فالعبارة ساكتة، بل في عنوان الدية ظهور في الثاني، وفي أنَّ الترتّب من باب الضمان, وأنَّى لذلك بباب العقوبة؟.
وبالجملة، مراد مثل صاحب ( القواعد) ـ رحمه الله ـ بيان اشتراك الدية في الجملة مع القصاص في أصل الترتّب لا في كيفيّته وسببه وجهته وأنَّها عقوبة أم ضمان, كما لا يخفى على المتدبِّر.
ولنختم البحث بما في شرح ( الإرشاد) في ذيل قوله : (الجناية إمَّا على نفس أو طرف، وهي إمّا عمد محض..), حيث قال : (الظاهر أنَّ المراد بالجناية هنا أعمّ ممّا يوجب القصاص في النفس أو الطرف، بل في الأعضاء مطلقاً, وممَّا يوجب الدية كذلك فقط; لما يُفهم من تقسيمها وبيان الأقسام.
وكان ينبغي أنْ يراد بها ما يوجب القصاص فقط; لما سيأتي من كتاب الديات، وأيضاً كان ينبغي تقسيهما إلى النّفس والأعضاء لا إلى النفس والطرف، إلاّ أنْ يريد بالطرف مطلق العضو. وكان ينبغي أنْ يعبّر بـ(كتاب القصاص)؛ لما سيأتي من كتاب الديات كما فعل في (الشّرائع) وغيره, أو بـ(كتاب الجنايه) ثمّ يجعل مقصداً في القصاص وآخر في الديات كما فعل في (القواعد)..)(٨).
معنى القصاص اصطلاحاً
ومعنى القصاص اصطلاحاً ظاهر، فإنّه المقابلة بالمثل على نحو خاصّ كما مرّ.
وفي (المنجد) ذكر له معنيين، أحدهما: الجزاء على الذنب، وثانيها: أنْ يُفعل بالفاعل مثل ما فعل .
وفي مفردات الرّاغب: (والقصاص تتبّع الدم بالقَوَد).
وفي (المصباح المنير) للفيومي: (قاصصته مقاصّة وقصاصاً ـ من باب (قاتل) ـ: إذا كان لك عليه دَين مثل ماله عليك، فجعلت الدين في مقابلة الدين. مأخوذ من اقتصاص الأثر, ثمّ غلب استعمال القصاص في قتل القاتل وجرح الجارح وقطع القاطع)(٩).
وكيف كان فالقصاص لمَّا كان مفهومه اللغوي الجزاء والمعاوضة على نحو المماثلة فمصاديقه مختلفة بحسب المقامات، فالمقاصّة في الدَين بما ذكره الفيومي, أو بالأخذ من مال المديون بشرائطه الخاصّه على ما في الفقه .
وأمّا القصاص في الفقه وفي باب الجزاء على الضرر ببدن الإنسان الموضوع للبحث فهو: المماثلة في الجزاء بالقود والقطع كما هو واضح ، فمادّته من باب المفاعلة بحسب المفهوم واحد, والاختلاف في المصاديق.
وعلى هذا، فالمفهوم من القصاص اصطلاحاً ليس معنىً خاصّاً له, بل يكون من باب تطبيق المفهوم على المصداق، وأنَّ المعنى من تلك المادة واحدة وهو المماثلة, من دون الفرق بين المال والبدن. فلا تغفل وكن على ذكر من مسألة الخلط الواقع كثيراً بين المفهوم والمصداق في شرح الألفاظ.
وكيف كان ففي (الجواهر) ذكر المناسبة بين القصّ بمعنى التتبّع وذلك المعنى، ودونك العبارة: (القِصاص ـ بالكسر ـ فِعال من: قصَّ أثره, إذا تتبعه. والمراد به هنا: استيفاء أثر الجناية من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح، فكأنّ المقتصّ يتبّع أثر الجاني فيفعل مثل فعله. ويقال: اقتصّ الأمر فلان من فلان, إذا اقتصَّ له منه)(١٠).
ــــــــــــــــ
(١) المقنع: ٥٠٩ ، باب الديات.
(٢) كتاب المقنعة(ضمن الجوامع الفقهية): ١١٤، باب القضاء في الديات والقصاص.
(٣) كتاب الانتصار( ضمن الجوامع الفقهية): ١٩٨ ، كتاب الحدود والقصاص والديات وما يتصل بذلك.
(٤) النهاية: ٧٣٣، كتاب الديات, باب أقسام القتل.
(٥) كتاب الوسيلة إلى نيل الفضيلة( ضمن الجوامع الفقهية): ٧٧٩، كتاب الجنايات.
(٦) شرائع الإسلام: ٣٦١ ، كتاب القصاص. و: ٣٨١, كتاب الديات.
(٧) تحرير الأحكام: ٢٣٩، كتاب الجنايات.
(٨) مجمع الفائدة والبرهان ١٣: ٣٧١.
(٩) المصباح المنير : ٨٨ ـ قصص.
(١٠) جواهر الكلام ٤٢: ٧.