ترك الذنب أهون من طلب التوبة. ( نهج البلاغة ٤: ٤٢)      ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله. ( نهج البلاغة ٤: ٩٥)        اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك. ( نهج البلاغة ٣: ٤٥)      أصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك. (نهج البلاغة ٣: ٣٩)      الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد. ( نهج البلاغة ٤: ١٨)      
الدروس > بحث خارج > فقه > المسائل المستحدثة الصفحة

أرباح الإيداعات المصرفيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجبين المنتخبين المكرمين، واللعن على أعدائهم أجمعين.
تبلورت في العصر الراهن مسائل جديدة، ونريد هنا بعون الله أن نبتّ البحث فيها، وأوّل مسألة نريد البحث فيها هي (أرباح الإيداعات المصرفية)، وبعبارة اخرى: البحث في البنك اللاربوي في الإسلام، أي البنك الذي يكون بنكاً وتجري فيه جميع العمليّات المصرفيّة لكنّه يخلو من الربا.
الأحكام الإسلاميّة المتعلّقة بالمال:
نبحث في البداية قليلاً في الأحكام الإسلامية ذات الصلة بالمال، وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ نصف الفقه ذات صلة بالاقتصاد. عندنا ستون كتاباً فقهياً تبدأ من كتاب الطهارة وتنتهي بكتاب الديات، وفي (الشرائع) خمسة وخمسون كتاباً، وإذا اعتبرنا كتاب الأنفال جزءاً من كتاب الخمس كانت الكتب أربعة وخمسين كتاباً، و(الشرائع) يبدأ كذلك بكتاب الطهارة وينتهي بكتاب الديات.
إنّ ما يقرب من تسعة وعشرين كتاباً من الأربعة والخمسين كتاباً تتعلّق بالاقتصاد ولها صلة بأمور المال، والأحكام التي ترتبط بالمال نطلق عليها: اقتصاد. وعليه فنصف الفقه تشكّله مطالب اقتصاديّة.
إن حال كتب مثل الطهارة والصلاة معلوم، أمّا الكتب المعنيّة هنا فهي مثل الزكاة والخمس والأنفال والتجارة والرهن والمفلّس والحجر والضمان والحوالة والصلح والشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والوديعة والعارية والإجارة والوقف والصدقات والهبة والسكنى والحبس والسبق والرماية والوصايا والجعالة والصيد والذباحة والأطعمة والأشربة والغصب والشفعة وإحياء الموات واللقطة والإرث والديات. ومجموعها تسعة وعشرون كتاباً فقهيّاً اقتصاديّاً، وهذا يكشف عن أهميّة الأحكام ذات الصلة بالمال في الفقه الإسلامي.
الحثّ على الكسب الحلال وذمّ الفقر:
والمطلب الآخر هو تمجيد الإسلام للمال الحلال، ففي هذا المجال روايات كثيرة، مثلاً جاء في (البحار) ج٧٧، ص ١٥٥ ح ١١٦ باب ما جُمع من مفردات كلماته: قال ـ صلّى الله عليه وآله ـ: ((نعم العون على تقوى الله الغنى)).
ومن جانب آخر جاءت مذمّة كثيرة للفقر، كما أنّ من البحوث الاقتصاديّة هو: هل الفقر من شؤون الاقتصاد الإسلامي؟ أي هل أنّ الإسلام وضع خططه الاقتصاديّة بشكل يستدعي تواجد الفقر في المجتمع؟
أو أنّ العكس هو الصحيح، أي خطط الإسلام بشكل يؤدّي إلى استئصال الفقر من المجتمع واجتثاث جذوره إذا ما طُبّق فيه؟
إنّ الإسلام خطّط بشكل يؤمّن فيه جميع احتياجات الفقراء، بالطبع إنّ مصارف الخمس والزكاة لا تنحصر بالفقراء، بل بهم وبغيرهم؛ وفائدة ذلك هو أنّ الإسلام إذا لم يُطبَّق كان للفقراء موارد من قبيل الخمس والزكاة وإذا طُبِّق فإنّ الفقر سينعدم وستُصرف مثل الزكاة والخمس في موارد اُخرى من قبيل إيجاد فرص العمل لمن كان محتاجاً له وقادراً عليه، أمّا اُولئك الذين كانوا غير قادرين على العمل فبيت المال يتكفّلهم. وقد كان الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ يعمل هكذا.
والخلاصة هي: أنّ الفقر ليس من شؤون الإسلام ولا ممّا دعا إليه. وخُطط الإسلام موضوعة لأجل اجتثاث جذور الفقر من المجتمع، وإذا فُرض عدم تطبيق الإسلام وتبلورُ ظاهرة الفقر في المجتمع فإنّ الإسلام خطّط لهكذا حالات ، ووضع برامج للإعانات وتأمين احتياجات الفقراء.
جاء في المجلّد الخامس عشر من (وسائل الشيعة) من طبعة ٣٠ مجلّداً، أو المجلّد الحادي عشر من طبعة العشرين مجلّداً، في الباب ١٩ من أبواب جهاد العدو، أنّ الشيخ الطوسي ينقل بسنده عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قوله: مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل فقال ـ عليه السلام ـ: ((ما هذا؟)) قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال: ((استعملتموه حتى إذا كبر وإذا عجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال)).
وهذا الحديث ذات مغزىً عميق، فهو يدلّ على التكافل الاجتماعي، أي أنّ بيت المال يتكفّل مَن عجز وأصبح غير قادر على العمل، كما أنّه يدلّ على أن لا تكون الأوضاع الاجتماعيّة بشكل يضطرّ من جرّائها أن يسأل المحتاج.
في المجلّد الرابع عشر من (الوسائل) ـ العشرين مجلّداً ـ كتاب النكاح، صفحة ٢٦٦، الباب الثامن والعشرون من أبواب النكاح المحرّم، باب تحريم الاستمناء، ينقل الكليني عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: (اُتي برجل عبث بذكره، فضرب يده حتى احمّرت، ثمّ زوّجه من بيت المال).
من الدلالات المستفادة من هذه الرواية هو أنّ بيت المال يتكفّل بتأمين حاجة الشاب لأجل تزويجه.
لا وجود للفقر في قاموس الإسلام، وهذا خلاصة ما يستشفّ من مصادر الإسلام، والموجود فيها هو أنّ من كان قادراً على العمل فعلى الدولة توفير الفرصة له، ومن كان غير قادر على العمل فعلى الدولة تكفّله ورعايته ماليّاً. والفقر ليس جزءاً غير منفكّ من الاقتصاد الإسلامي. بل ذمّ الفقرَ كثيراً. نأتي ببعض من تلك الموارد:
((الفقر، الموت الأكبر)). نهج البلاغة ، الكلمات القصار: ١٦٣.
((الفقر يُخرس الفَطِن عن حجّته، والمُقلّ غريب في بلدته)). نهج البلاغة، الكلمات القصار: ٣.
((الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة)). نهج البلاغة، الكلمات القصار: ٥٦.
وقد قال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ لابنه محمّد بن الحنفية: ((يا بُنيّ، إنّي أخاف عليك الفقر فاستعذ بالله منه، فإنّ الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت)). نهج البلاغة، الكلمات القصار: ٣١٩.
وهذه هي عواقب الفقر حقّاً.
قال الصادق ـ عليه السلام ـ: ((أربعة أشياء القليل منها كثير: النار والعداوة والفقر والمرض)). بحار الأنوار ج ٨٨ ص ٢٠٥.
إنّ ذمّ الإسلام للفقر ما كان إلاّ لأجل تحريض الناس على السعي لاجتثاث جذور الفقر وإدارة حياتهم إدارة اقتصاديّة إسلاميّة سليمة، بحيث لا يكون في مجتمعهم فقير أبداً. وفي هذا المجال سعى الإسلام لترغيب المسلمين على الأعمال المفيدة مثل التجارة والزراعة والرعي.
جاء عن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال:((العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال)). بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٧.
وعن الصادق ـ عليه السلام ـ عن آبائه ـ عليهم السلام ـ قال: ((قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: العبادة سبعون جزء وأفضلها جزءاً طلب الحلال)). بحار الأنوار ج ١٠٣ ص ٧.
((طلب الحلال فريضة على كلّ مسلم ومسلمة)). بحار الأنوار ج ١٠٣ ص ١٠٩.
وعن الصادق ـ عليه السلام ـ عن أبيه، قال: ((كان أمير المؤمنين يقول: من وجد ماءً وتراباً ثم افتقر فأبعده الله)). بحار الأنوار ج ١٠٣ ص ٦٥.
والحديث الأخير ترغيب عجيب وبخاصّة لأصحاب رؤوس الأموال بأن لا يتقاعسوا عن استثمار أموالهم، وكذا بالنسبة للدولة بأن توطّئ لهم إمكانيّة الاستثمار.
عن الصادق ـ عليه السلام ـ عن آبائه ـ عليهم السلام ـ قال: ((سُئل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: أيُّ المال خير؟ قال: زرع يزرعه صاحبه وأصلحه وأدّى حقّه يوم حصاده، ورجل في غنمه قد تبع بها مواضع القطر، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.
قيل: يا رسول الله! فأيُّ المال بعد الغنم خير؟ قال: البقر تغدو بخير وتروح بخير. قيل: يا رسول الله فأيُّ المال بعد البقر خير؟ قال: الراسيات في الوهل والمصعمات في المحل)). بحار الأنوار ج ١٠٣ ص ٦٤.
وعن عمرو بن جميع، قال: سمعت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ يقول: ((لا خير في من لا يحبّ جمع المال من حلال، فيكفّ به وجهه ويقضي به دينه)). بحار الأنوار ج ١٠٣ ص ٧.
وفي الصفحة ٩ من نفس المجلّد يقول: ((كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال له: هل له من حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني)).
ما أفاده العلاّمة الطباطبائي:
للعلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائي ـ صاحب (تفسير الميزان) ـ في الآية الخامسة من سورة النساء: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً) بحثُ جميل جدّاً، يقول فيه: إنّ أصل القيام (قوام) قلبت واوه ياء. أي قوام الحياة هو المال، والآية تؤكّد أن لا تعطوا الأموال التي هي قوام الحياة للسفهاء، والمراد من السفهاء هو غير الراشدين من الناحية العقليّة، فيصرفون أموالهم في غير مصالحهم المعقولة.
والنقطة المهمّة هنا هي المستبطنة في مفردتي (أمْوالَكُم) و (قِياماً)، فرغم أنّ الأموال التي هي قوام الحياة أموال السفهاء، إلاّ أنّه نسبها لكم، أي لغير السفهاء.
كما أنّ الآية تستبطن معنىً آخر وهو أنّ الحياة بلا مال لا قوام لها، (من لا معاش له لا معاد له). يبدو أنّ هذا ليس حديثاً، فلم أعثر على مصدر له، إلاّ أنّ الآية تكفي في إفادة المعنى المراد، أي أنّ الحياة لا قوام لها دون المال، والمال في المجتمع بمثابة الدم في الجسم، فكما أنّ الجسم لا قوام له دون دم، كذلك المجتمع لا قوام ولا حياة له دون المال.
يقول الطباطبائي في المجلّد الرابع من تفسيره (الميزان): (الكلام في أنّ جميع المال لجميع الناس). أي لا يتصوّر أحد منّا إذا كان يملك مالاً أنّه يتمكّن أن يفعل ما يشاء، رغم أنّ المال ماله والحقّ حقّه، فإنّه مسؤول أمام المجتمع. فإذا أسرف شخص خان مجتمعه، إضافة إلى أنّه عمل عملاً محرّماً، وكذلك إذا كنز المال وادّخره دون استثمار. فالإنسان مسؤول تجاه أمواله، ومسؤوليّته هنا عظيمة جدّاً.
ثمّ يقول العلاّمة: (هذه حقيقة قرآنيّة)؛ وذلك لأنّ أصل الأحكام والقوانين الهامّة في الإسلام وكثير من الأحكام ذات الصلة بالاقتصاد في الإسلام ترجع إلى هذا الأصل القرآني.
ثمّ يقول: (الملكيّة الحقيقيّة لله، حيث تقول الآية: (للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ)(١)). ملكيّتنا للأشياء ملكيّة اعتباريّة، أي اعتبرها وتواطأ عليها العقلاء، أو أنّ عقلهم اقتضى الحكم بذلك رغم أنّ المال ملك للجميع؛ لذلك كان على الجميع أن يتصرّفوا بالأموال بشكل لا يكون خيانة للناس. وكنز المال وتجميده نوع من الخيانة للناس، كما هو الحال بالنسبة إلى الإسراف والاحتكار والربا.
الخلاصة
وعلى ما تقدّم تتّضح النقاط التالية:
أولاً: نصف فقهنا يتعلّق بالأموال والشؤون الاقتصاديّة.
ثانياً: ليس الفقر جزءاً لا يتجزّأ من نظام الاقتصاد الإسلامي.
ثالثاً: دعا الإسلام الناس وشجّعهم على كسب المال الحلال.
وصلّى الله على محمّد وآله

(١) النساء: ١٣٢.