عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار. ( نهج البلاغة ٤: ١٩)      من أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه. ( نهج البلاغة ٤: ٢٠)      بالإفضال تعظم الأقدار. ( نهج البلاغة ٤: ٥٠)      من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها. ( نهج البلاغة ٤: ٤١)        لن لمن غالظك فإنّه يوشك أن يلين لك. ( نهج البلاغة ٣: ٥٤)      
الدروس > بحث خارج > أصول > مباحث الدليل اللفظي الصفحة

النواهي
بسم الله الرحمن الرحيم
أللهم صلّي على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
في النواهي ايضاً كالاوامر هناك أبحاث لفظية أي في تشخيص دلالات النهي وصيغته، وهناك ايضاً ابحاث استلزامية عقلية كبحث اجتماع الامر والنهي أو اقتضاء النهي للفساد ونحو ذلك، كما في الامر كان يبحث عن اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده أو لوجوب مقدمته.
البحث الاول : عن الدلالات اللفظية للنهي.
وها هنا جهات عدة .
الجهة الاولى: في المدلول اللغوي لصيغة النهي ومادته.
تفس يرات ثلاثة لحقيقة النهي.
ذكر قدماء الاصوليين وكذا صاحب الكفاية أن النهي كالامر يدل على الطلب بهيئته غاية الامر الامر يدل على طلب الفعل والنهي يدل على طلب الترك.
وفي قبال هذا ذهب مشهور المتأخرين عن صاحب الكفاية والمعلقين على الكفاية الى أن صيغة الامر وصيغة النهي وكذا مادتها مختلفتان لا تدلان على شيء واحد والاختلاف انما يكون في المتعلق، وأن الامر طلب للفعل والنهي طلب للترك، بل لكل منهما مدلول تصوري مباين عن الاخر وكذلك مدلول تصديقي مغاير للاخر، فالامر يدل على النسبة الطلبية الارسالية والنهي يدل على المنع والزجر عن الطبيعة.
وهناك قول ثالث اختاره بعض الاعلام (قده) وهو ان النهي يدل على اعتبار الحرمان عن الفعل والممنوعية عنه على ذمة المكلف، فالنهي يبرز هذا المعنى وهذا الاعتبار النفساني، بخلاف الامر الذي يبرز به اعتبار الفعل على ذمة المكلف.
فالقول الثالث يقبل ما يذكره القول الثاني من الاختلاف بين الامر والنهي في المدلول لكن يختلف معه في أنه يجعل المدلول عبارة عن هذا الامر الاعتباري المباين مع اعتبار الامر.
والصحيح من هذه الاقوال انما هو القول الوسط المشهور، ولابد من بيان الملاحظات على المبنيين الثانيين فنقول:
ـ الاشكال على التفسير الاول للنهي باشكالات ثلاثة
أما المبنى الاول الذي اختاره صاحب الكفاية فقد اشكل عليه المشهور باشكالين:
الاول: نقضي وحاصله النقض ببعض الواجبات التي يكون فيها طلب الترك مع أنها لا تكون من المحرمات بل تكون من الواجبات نظير الصوم حيث أن الواجب فيه انما هو ترك الاكل والشرب وسائر المفطرات، مع أنه لا اشكال ان التكليف في باب الصوم من باب الاوامر لا من باب النواهي، فلو كان طلب الترك نهياً لكان هناك نهي عن الصوم؟
الثاني: ان الوجدان يقضي بأنه في باب النهي لا يكون الملحوظ طلب الترك وانما الزجربهذا العنوان الوجودي الذي هو الصوم، اذاً فهذا النقض غير وارد على اصحاب هذا المسلك، فطلب الصوم أمر لان الصوم عنوان وجودي وفعل من الافعال وليس عدمياً، نعم عدم المفطرات محقق لهذا العنوان الوجودي مع ضم امور اخرى وجودية كالنية وقصد الصوم.
والاشكال الثالث ايضاً واضح الدفع وهو ان العدم ليس بشيئ فهذا كلام صحيح، فالعدم الحقيقي العيني بالحمل الشايع ليس بشيء لكن هذا لا يعني ان لا يعقل ان يتعلق الطلب باعدام طبيعة، لان الطلب في عالم الطلب يتعلق بالعناوين لا بالواقع لكن من خلال فنائها وحكايتها، ومفهوم العدم مفهوم كمفهوم الوجود له وجود في الذهن يتعلق به الطلب والحب والبغض ونحو ذلك من الامور.
نعم اذا اريد ان الصوم لا يمكن ان يكون علة لمصلحة وانما هناك مثلاً مفسدة في الفعل أو مصلحة تفوت الفعل فهذا امر معقول تكويناً وخارجاً فلابد ان يكون علته ابضاً امراً وجودياً لا أمراً عدمياً محضاً فان العدم يستحيل ان يكون علة، الا أن هذا ليس قوام الحكم، بل قوام الحكم هو ما ينشؤه، فاذا انشأ طلباً لترك فعل بأي ملاك من الملاكات أو تعلقت ارادته بان يترك المكلف فعلاً من الافعال فحينئذ يكون تعلق الارادة بالعدم فضلاً عن الانشاء ـ أي بمفعهوم العدم بما هو حاك عن واقعه ـ امراً معقولاً وممكناً، فلا يلزم ان يكون العدم الحقيقي الذي ليس بشيئين ولا يمكن ان يكون محمولاً أو محمولاً عليه يقع محمولاً عليه مثلاً أو متعلقاً لشيء.
وهذه الاشكالات العقلية ناشئة من الخلط بين هذه المقامات.
والمهم في المقام هو الاشكال الثاني أي حكم الواجدان فهو كلام صحيح، يعني ان الوجدان العرفي واللغوي يقضي بأنه في باب النواهي حينما يقول المتكلم مثلاً (لا تفعل) وما شابه يكون المتبادر اللغوي من مثل هذه الصيغة ليس هو طلب الترك، ففرق بين لا تشرب وبين اترك شرب الخمر، اذ بينهما من حيث المفهوم تباين وان كانا متلازمين خارجاً، فالوجدان يقضي بهذا، بل يمكن ان نقيم عليه بعض المنبهات فان الامور اللغوية ليست أموراً برهانية لكي تقام عليها البراهين، ولهذا ما يكون دليلاً على صحة دلالة نسميه بالمنبه عادة، وسوف تأتي هذه المنبهات.
ـ بيان انتصر به لصاحب الكفاية:
إلا أنه هنا يوجد كلام ايضاً لبعض من حاول أن ينتصر لصاحب الكفاية في ما قاله (قده) من أن النهي كالامر وانما فرقه عن الامر أن الامر طلب للفعل والنهي طلب للترك، فادعى بان هذا الكلام صحيح بل عليه برهان بلحاظ مرحلة الانشاء، فما ينشؤه المولى في موارد النهي لابد وان يكون طلب الترك للطبيعة، وذكر على هذا المدعى بياناً حاصله: ان التكليف اعم من الواجب أو الحرام انما يكون بداعي التحريك وايجاد الداعي والارادة للمكلف نحو متعلقه، وحينئذ ايجاد الارادة نحو الفعل يكون واضحاً، وفي طرف النهي والحرمة لابد أن يكون ايجاد الارادة نحو ترك الفعل، فان ما تتعلق به ارادة المكلف في طرف المحرمات انما هو ترك الفعل، وما يمكن ان يكون هو الغرض التشريعي والانشائي للمولى انما هو ايجاد ارادة ان يترك الفعل، والارادة والداعي لابد ان يتعلق بالترك لا محالة، واذا لم تتعلق الارادة بالترك فسوف لن يتحقق ترك. اذن فالمنشأ لابد أن يكون عبارة عن طلب الترك، وان كان هذا قد يبرزه بلفظ ظاهره اللغوي الزجر والمنع عن الفعل.
فكأنه يقبل ان المدلول اللغوي انما هو الزجر والمنع لكن المنشأ بهذا المدلول لابد أن يكون ما يقوله صاحب الكفاية والقدماء.
ـ المناقشة فيما انتصر به لصاحب الكفاية:
وهذا الالكلام قابل للمناقشة من ناحيتين.
الاولى: ان ما ذكر من أن التكاليف تجعل بداعي، ايجاد الداعي أعم من الواجبات والمحرمات هذا بحسب الحقيقة هو الغرض التكويني من التكاليف لا مدلول التكليف من الامر والنهي حتى التصديقي فضلاً عن التصوري، فحينما يسأل أن المولى لماذا يوجب أول لماذا يحرم يقال غرضه ان يحقق الداعي التشريعي، فيتحقق في طول الامر داع تشريعي لا محالة عند العبد نحو الفعل أو داع تشريعي نحو الترك مثلاً ، فهذا غرض تكويني من وراء الامر والنهي والتكاليف، والبحث في المدلول اللفظي الوضعي التصوري أو التصديقي الجدي من وراء الامر والنهي، وليس المدلول الجدي للامر فضلاً عن النهي ايجاد الداعي، ف ((افعل)) ليس بمعنى ايجاد الداعي وان كان يوجد الداعي.,
والحاصل انه قد صار خلط بين هذين المقامين.
الثانية: انه حتى لو فرض أن ايجاد الداعي صار هو المدلول الانشائي للتكاليف لكن لم نفهم برهاناً على أن المولى في باب النواهي لابد أن يوجد الداعي بمعنى الارادة نحو الترك.
فالمولى في الاوامر غرضه ايجاد الداعي نحو الفعل أي أن يريد المكلف الفصل فيفصل، وفي النواهي ليس غرضه ان يريد الترك فيترك بل غرضه ان لايريد الفعل فلا يفعل سواء كان من جهة أنه يريد الترك أو لا يريد الفعل، فيكفي في حصول الغرض التشريعي للمولى ان لا يريد المكلف الفعل فلا يفعله، فلو أن الملكف حصل منه اجتناب الحرام من باب أنه لم يرد فعل الحرام ايضاً يكون ممتثلاً، يعني لا يكون امتثال الحرام متوقفاً على أن يريد عدم الحرام وتركه، بل أن المقولات الحكمية تقتضي أن عدم المعلول يكون بعدم العلة لا بعلة العدم، فانهم يقولون يستحيل ان يكون للعدم علة، فاذا كان صدور الفعل معلولاً للارادة فانعدامه وانتراكه معلول لعدم ارادة الفعل لا لارادة العدم.
فاذا اردنا ان نمشي على حسب المباني الفلسفية والمصطلحات التي جرى عليها المحققون من الفلاسفة فحينئذ لا بد أن نقول بأن هذا الكلام بنفسه خلاف البراهين الحكمية.
الثاني للنهيـ بيان منبه على بطلان تفسير صاحب الكفاية وبالتالي تبني التفسير:
اذا فكلام القدماء لابد أن يحمل أما على ضرب من المسامحة منهم أو يقال بأنهم اذا ارادوا ذلك: حفيقة وبحسب المدلول اللفظي فهذا خلاف الوجدان، بل يمكن حينئذ اثبات هذا الوجدان بعض المنبهات التي حاصلها مايلي:
اذا جعلنا مدلول النهي عبارة عن النسبةالزجرية يكون هذا شيئاً مطابقاً مع وجداننا، حيث أن النهي سوف يدل حينئذ بمادته ـ أي بالفعل المنهي عنه من قبيل شرب الخمر ـ على الطبيعة كما في مادة الأفعال في كل فعل، في فعل الأمر أو الماض أو المضاراع، فالمواد في الأفعال موضوعة للطبيعة أسم الجنس بالوضع النوعي وهيئة النهي كهيئة الأمر، فهيئة الأمر تدل على النسبة الإرسالية الطلبية وهيئة النهي تدل على النسبة المنعية الزجرية، وحينئذ يكون الوجدان مطابقاً مع هذا، وهو أن صيغة النهي كالأمر لها مادة وهي المبدأ والفعل الذي ركبته الهيئة وهي تدل على اسم الجنس أي ذات الطبيعة، ولها هيئة كهيئة الأمر غاية الأمر هيئة الأمر إرسال وبعث بنحو المعنى الحرفي بينما النسبة في طرف النهي نسبة زجرية منعية عكس تلك، وبطرو هيئة النهي على المادة ـ أحد الأطراف الثلاثة لهذه النسبة المنعية والزجرية والتي هي ( من يمنع ـ من يُمنع ـ ما يمنع عنه) ـ يتم المعنى بلا حاجة الى ادخال شيء زائد.
وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن النهي يدل على النسبة الطلبية أي طلب الترك، لأنه سوف يدخل هنا في عالم الدلالة مفهوم زائد على المفهومين السابقين اللذين هما النسبة الطلبية أي مفاد الهيئة، والمادة التي هي اسم للجنس أي طبيعة الشرب مثلاً من "لا تشرب" وهذا المفهوم الثالث هو ترك الطبيعة أو اعدام الشرب مثلاً، فهذا الترك يصبح مفهوماً ثالثاً على مستوى التحليل اللغوي، وهذا المفهوم الثالث يحتاج الى دال عليه، إمّا دال مستقل غير الهيئة والمادة، ومن الواضح أنه في باب صيغة النهي لا يوجد إلا دالان كما في سائر المركبات من الهيئة والمادة، فلابدّ أن نقول أن هذا المفهوم الزائد مأخوذ في ضمن أحد الدالين الآخرين، إما من مادة الفعل أي في الشرب مثلاً وإما في طرف الهيئة.
ولا يمكن أن يؤخذ في طرف المادة لأنه لو قيل بأن مادة شرب مثلاً في خصوص صيغة النهي موضوعة لعدم الطبيعة بخلافه في سائر الهيئات حيث تكون موضوعة لنفس الطبيعة فهذا واضح البطلان لأن للمادة وضع واحد نوعي، وليس للمادة في كل هيئة وضع واحد مستقل، فوضع المادة في تمام الهيئات التي تعرض عليها واحد بمعنى واحد وهو عبارة عن ذات الطبيعة، ولم يؤخذ فيها لا مفهوم الوجود ولا مفهوم العدم حسب ما تقدم فيما سبق من أبحاث.
وإن قيل بأن هذه الطبيعة التي هي قسمٌ لذات الطبيعة والماهية مجردة عن قيد الوجود والعدم مفهوماً وواقعاً ـ في سائر المواد تؤخذ فانية في وجود مصاديقها في الخارج وفي خصوص مادة النهي تؤخذ فانية في إنعدام مصداقها في الخارج، فهذا ايضاً غير معقول، فإن كل طبيعة تكون فانية وحاكية بالحكاية الفنائية التصورية ـ كما بيناه مفصلاً سابقاً ـ في مصداقها لا في انعدامه ونقيضه، فهذا غير معقول.
اذن في طرف المادة لا يمكن ان يقال ان المادة تدل على عدم الشرب أو تركه.
وكذا لا يمكن ان يؤخذ في طرف الهيئة بأن تكون هيئة النهي تدل على الترك والعدم والاعدام، وذلك باعتبار ما تقدم في محله من أن الهيئات لها معان نسبية، والترك والعدم معنىً اسمي لا نسبي، كالوجود حيث هو أيضاً معنى اسمي، فأخذه في مدلول الهيئة معناه خروج الهيئة عن طبيعتها الحرفية والنسبية، وهذا غير صحيح ايضاً في باب الهيئات.
على أنه لابد ايضاً من التفتيش عن دال رابع في البين لان هذا الترك له ايضاً اضافة الى المادة، اذ ليس عدماً محضاً بل عدم هذه المادة ـ الشرب مثلاً ـ بالخصوص، فتكون بحاجة الى دالٍ رابع وهو هيئة الإضافة وأن هذا العدم مضاف الى هذا لا الى كل شيء.
فالقول بدلالة صيغة النهي على مفهوم طلب ترك المادة فيه مثل هذه المشاكل التي لا يمكن الإلتزام بشيء منها لأنها خلاف القواعد والنكات المفروغ عن صحتها وثبوتها في باب المواد والهيئات في الأبحاث المتقدمة.
إذن فهذه المقالة لا يمكن أن تكون مقالة دقيقة لتحديد المعنى اللغوي الدقيق لصيغة النهي، وانما الصحيح ما ذهب اليه المشهور من المتأخرين من أن صيغة النهي كصيغة الأمر من هذه الناحية أي أن فيها مادة موضوعة لنفس أسم الجنس ـ المعنى الإسمي ـ وهو شرب الخمر في (لا تشرب الخمر) وهي مشتركة في تمام الهيئات والأفعال، وهي أيضاً ـ أي صيغة النهي ـ موضوعة للمعنى النسبي الحرفي لكن ليس هو النسبة الطلبية بل نقيض الطلب، أي حالة المنع والمسك والزجر، فهي نسبة زجرية ونسبة منعية يمنع فيها الناهي المكلف عن المتعلق.
 
بيان إشكال للسيد الخوئي (قده) في المقام والإجابة عنه:
إلا أن صاحب المقالة الثالثة أشكل ولم يقبل هذا الكلام أيضاً، ووجه الإشكال الذي أبرزه هو:
ان ما ذكره المشهور لا يمكن قبوله لا من ناحية أخذ مفهوم الطلب والترك ـ بل اشكل بإشكاله هذا على الامر أيضاً ـ بل من ناحية اخرى هي: ان هذا المنع والزجر هل يراد منه المنع التكويني أو التشريعي، وكذلك في الاوامر، فاذا أراد المشهور الطلب والمنع التكوينيين فمن الواضح أنه في باب الاوامر والنواهي لا يوجد طلب تكويني بدليل تمكن المكلفين في العصيان، وأما اذا ارادوا الطلب والمنع التشريعيين فيذكر (قده) كلامين: كلام أن الطلب التشريعي والمنع التشريعي اذا اريد منه الارادة التشريعية فلا حقيقة له اصلاً.
وكلام آخر ـ هو الذي يذكره هنا ـ هو أن الطلب التشريعي أو المنع التشريعي لا يكون مدلولاً للنهي بل يكون محققاً بالنهي، يعني ان هذا اثر تكويني يترتب على النهي، فحينما ينهى يقال انه بنفس انشاء النهي تحقق منع تشريعي، فالمنع التشريعي متولد من النهي تكويناً ومترتب عليه لا أنه مدلول له، كما أن الطلب التشريعي ايضاً كذلك. فالزجر والمنع التشريعي وكذلك الطلب والبعث التشريعي انما يتولد كنتيجة تكوينية مترتبة على إنشاء الأمر والنهي بنفس إستعمال اللفظ لا أنها مدلول للفظ، وفرق بين ما يكون مدلولاً للفظ وبين ما يتحقق كنتيجة وفعل في الخارج باستعمال اللفظ.
ومن هنا إنتهى (قده) الى ذاك البيان، واختار أن المدلول إنما هو إنشاء أمر اعتباري الذي هو إعتبار الفعل على ذمة المكلف في الأوامر واعتبار المكلف محروماً وممنوعاً عن الفعل في باب النواهي.
وقد يشكل عليه هنا فيقال:
انه لماذا تختار في النواهي اعتبار الممنوعية؟ ولماذا لا يكون الأمر الاعتباري في النواهي عبارة عن اعتبار ترك الفعل في ذمة المكلف، ولعل هذا أكثر معقولية ومفهومية عرفاً، ففي الأمر اعتبار نفس الفعل وايجاده وفي باب النواهي اعتبار ترك الفعل أو عدمه على ذمة المكلف، فلماذا غيّرت المعتبر الذي يبرزه النهي عن طلب الترك الى ممنوعية الفعل؟
ويجيب (قده) على هذه النكتة بإستدلال خاص حاصله:
ان هذا هو المناسب مع ما هو الموجود في باب النواهي، فانه في باب النواهي خصوصاً على مبنى العدلية تنشأ النواهي عن مفاسد في متعلقاتها فحينئذ المناسب ان يعتبر المولى ممنوعية هذا الذي فيه المفسدة على ذمة المكلف. ففي الاوامر يوجد مصلحة في المتعلق فيعتبر نفس ما فيه المصلحة على ذمة المكلف، وفي النواهي لا يجعل ما فيه المفسدة على ذمة المكلف وانما يمنع عما فيه المفسدة.
والجواب: أن أصل اشكاله (قده) مع هذا الاستدلال لا يمكن قبولهما.
أما أصل الاشكال فجوابه أن المدعى أن المراد انما هو التكويني لا التشريعي، غاية الامر التكويني بنحو المدلول التصوري لا التصديقي وبنحو المعنى الحرفي ايضاً لا الاسمي، فصيغة (لا تفعل) وكذلك صيغة (إفعل) كما ذكرنا سابقاً موضوعة بإزاء معان تصورية، واشكاله (قده) هنا مبني على اختلاف مبنائي بينه وبين المشهور، فان المشهور جعلوا مداليل الالفاظ تصورية، بينما هذا العلم اختار في بحث الوضع مسلك التعهد الذي كان ينتهي به الى ان تكون المداليل اللفظية كلها تصديقية، أي اللفظ يدل على قصد أو اعتبار ونحو ذلك من الأمور الذي هو أمر تصديقي في نفس المتكلم، والمدلول التصوري دلالة أنسية نظير كثير من الدلالات الانسية والتداعيات ليس هو المدلول الوضعي.
فكأن ذاك المبنى هو الذي أدى به (قده) الى هذه النتائج الغريبة في هذه الموارد، وإلا فجواب ذاك الاشكال انه بناء على مسلك المشهور الذين هم أصحاب هذه المقالة ـ وهو الصحيح ـ من أن الألفاظ مداليلها الوضعية اللغوية تصورية لا تصديقية حينئذ نقول: الهيئات مداليلها تصورية لكن بنحو المعنى الحرفي لا بنحو المعنى الإسمي، فحينما نقول ان صيغة الأمر تدل على الطلب نقصد النسبة الطلبية التكوينية والنسبة الإرسالية التكوينية لكن تصوراً لا تصديقاً حتى يقال بأنه كيف يتحقق إرسال فيمن يكون عاصياً، فليس المقصود الدلالة على وجود الإرسال في الخارج وإنما الدلالة على مفهوم الإرسال في الذهن سواء امتثل في الخارج أو لا كأي مفهوم آخر أيضاً من المفاهيم الإسمية حينما نتصوره، وكذلك في طرف النهي، فالنهي يدل على النسبة الزجرية والنسبة الإمساكية والمدفية كمفهوم في الذهن، لا واقع الزجر حتى يقال العاصي كيف لم ينزجر، وكذلك مادة الأمر أي (أ ـ م ـ ر) ومادة النهي أي اسمي الأمر والنهي فإنهما يدلان بنحو المعنى الاسمي على مفهوم الطلب أو مفهوم الزجر والمنع.
وأما ما اختاره (قده) من مسألة الاعتبار واستشهد عليه بمبنى العدلية فهو غريب لأن المعنى اللغوي سابق على مبنى العدلية، مضافاً الى عدم المناسبة بين هذا المبنى واختيار خصوص هذه الصيغة للاعتبار.
فالصحيح ما ذهب اليه المشهور.
وبهذا تتم الجهة الأولى في المقام.