المقدّمة
موضوع العلم ومسائله
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
(أمّا المقدّمة ففي بيان أمور).
قد جرت سيرة المصنفين على ذكر مقدمة قبل الشروع في مباحث العلم ومسائله يتعرضون فيها لأمور ترتبط بالعلم ولا تكون من مسائله، كبيان موضوع العلم وتعريفه وبيان الغرض والغاية منه، وتبعهم على ذلك الماتن (قدس سره) وجعل لكتابه هذا مقدمة وبين فيها أموراً كلها خارجة عن مسائل علم الأصول ولكنها ترتبط بها نحو ارتباط كما ستعرف إن شاء الله تعالى.
(الأول: أن موضوع كل علم).
موضوع العلم ومسائله:
المعروف عند القوم أنـه لابد لكل علم من موضوع يبحث في مسائل العلم عن العوارض الذاتية لذلك الموضوع بأن تكون المحمولات المذكورة في مسائل العلم عوارض ذاتية له. وذكروا في تعريف العرض الذاتي: إنه ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخلية كانت أو خارجية.
توضيح ذلك: أن العارض (يعني المحمول على الشيء بمفاد كان الناقصة) إما أن يكون بلا واسطة أصلاً أو يكون معها، وعلى الثاني إما أن تكون الواسطة داخلية أو خارجية.
فالواسطة الداخلية بالإضافة إلى ذيها تكون أعم أو مساوية ولا يمكن أن تكون أخص لأنـها جزء الشيء وجزئه لا يكون أخص منه، حيث إنه جنسه أو فصله، فالعارض للشيء بواسطة فصله مثل إدراك الكليات العارض للإنسان بواسطة الناطق، والعارض له بواسطة جنسه كالحركة القصدية العارضة بواسطة الحيوان (ولا يخفى أن الحركة القصدية غير الحركة الإرادية حيث إن الحركة الإرادية لا تكون في غير الإنسان من سائر الحيوانات)(١).
والواسطة الخارجية تكون بالإضافة إلى المعروض مساوية أو أعم أو أخص أو مباينة والأول كعروض الضحك للإنسان بواسطة التعجب المساوي له حيث لا يوجد في غيره من سائر الحيوان، والثاني كعروض الحركة القصدية للمتكلم بواسطة الحيوان، والثالث كعروض إدراك الكليات للحيوان بواسطة الناطق، والواسطة المباينة كالنار في عروض الحرارة للماء وكالسفينة في عروض الحركة لجالسها. فهذه أقسام سبعة.
والعرض الذاتي منها ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخلية كانت أو خارجية.
والغريب منها ما يعرض له بواسطة خارجية أعم أو أخص أو مباينة واختلفوا فيما كان بالواسطة الداخلية الأعم(٢).
ولذلك وقعوا في إشكال لزوم خروج كثير من مباحث العلوم عن كونها مسائل لها فإن المحمولات في مسائلها لا تكون غالباً عارضة لموضوعاتها بلا واسطة أو مع واسطة مساوية داخلية أو خارجية، مثلاً المبحوث عنه في علم النحو في مسألة الفاعل رفعه، وفي مسألة المفعول نصبه، ونحو ذلك مع أن شيئاً من الرفع والنصب لا يعرضان الكلمة بنفسها بل يعرضانها بوساطة الفاعل والمفعول وكل منها أخص من الكلمة التي هي موضوع هذا العلم (على ما هو المعروف)، وكذا المبحوث عنه في علم الأصول ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلاً مع أن النسبة بينها وبين صيغة الأمر في الكتاب المجيد ليست هي التساوي(٣) وهكذا.
ذكر الماتن في المقام أمرين وكأنه يندفع الاشكال بهما من أساسه:
أحدهما: أن موضوع العلم عين موضوعات مسائله خارجاً ولا تغاير بينهما إلا تغاير الكلي مع أفراده.
وثانيهما: أن كل عرض لا يكون عروضه للشيء مع الواسطة في العروض هو عرض ذاتي له سواء لم يكن في عروضه له واسطة أصلاً أو كانت بنحو الواسطة في الثبوت، ولا يخفى أن الواسطة في العروض نظير ما في نسبة الحركة إلى جالس السفينة حيث إن المتحرك خارجاً حقيقة هي السفينة ونسبتها إلى الجالس فيها بنحو من العناية وعلى ما ذكره (قدس سره) تكون تمام المحمولات في مسائل العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها فإنه بعد كون الموضوع في علم النحو مثلاً هي الكلمة (يعني اللفظ الموضوع لمعنى) وهي عين الفاعل في الكلام، يكون الرفع المحمول على الفاعل محمولاً على الكلمة بلا واسطة في العروض.
ثم إن المراد بالعارض هو المحمول لا العرض في مقابل الجوهر حيث إنه ربما لا يكون المحمول في المسألة عرضاً كما في بعض مسائل علم الكلام كقولهم «واجب الوجود عالم، قادر، بسيط» وكقولهم في الفقه «الماء طاهر» و«الخمر نجس» إلى غير ذلك.
وعلى ما ذكر يكون قوله (رحمه الله)(٤) «هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» جملة معترضة لبيان تعريف موضوعات العلوم، وقوله (رحمه الله)(٥): «بلا واسطة في العروض» تفسير للعرض الذاتي وإشارة إلى الخلل فيما ذكروه في تعريفه من تقسيمهم العارض إلى سبعة أقسام وقولهم بأن أربعة منها عرض غريب.
وقوله (رحمه الله)(٦): «نفس موضوعات مسائله» خبر «إن» يعني موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله.
وقوله (رحمه الله)(٧): «ما يتحد معها خارجاً» معطوف على «موضوعات مسائله» يعني موضوع كل علم ما يتحد مع نفس موضوعات مسائله خارجاً.
وقوله (رحمه الله)(٨): «الطبيعي وأفراده» معطوف على «الكلي ومصاديقه» والمراد من المعطوف والمعطوف عليه واحد.
وقد اتضح بما تقدم أن ما يذكر موضوعاً لبعض العلوم مما لا تكون نسبته إلى موضوعات مسائله من قبيل الكلي والفرد خطأ في تشخيص الموضوع إذ لا تغاير بين موضوع العلم وموضوعات مسائله إلا تغاير الكلي مع فرده كما مر (ويقتضيه البرهان المدعى لإثبات لزوم الموضوع لكل علم). وعليه فما يقال من أن موضوع علم الطب مثلاً هو بدن الإنسان وموضوعات مسائله الأعضاء المخصوصة ليس بصحيح لأن نسبة البدن إلى العضو نسبة الكل إلى الجزء لا الكلي إلى الفرد فيكون الموضوع في علم الطب ما يعرضه المرض لا خصوص البدن.
ثم إن المعروف أن وجه التزام الماتن (رحمه الله) ومن تبعه بلزوم الموضوع للعلوم، هو عدم إمكان صدور الواحد عن الكثير بدعوى أن الغرض من العلم واحد فاللازم صدوره عن واحد وهو الجامع بين موضوعات المسائل حيث إن الجامع بين محمولاتها ينتهي إليه كما هو مقتضى قولهم كل ما بالعرض لابد من أن ينتهي إلى ما بالذات.
أقول: ليس في كلامه (قدس سره) في المقام ما يشير إلى الموجب لالتزامه بذلك، بل في كلامه ما ينافي الموجب المفروض حيث صرح في تداخل العلوم بإمكان غرضين متلازمين فيدون لأجلهما علم واحد، ومقتضى القاعدة المفروضة عدم إمكان غرضين في علم واحد بل ولا إمكان ترتب غرضين على بعض مسائل العلم حيث إنه من صدور الكثير عن واحد.
ثم إنه (قدس سره) أضاف إلى تعريف علم الأصول «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»(٩) وذكر فيوجهه أنه لا موجب لخروج مباحث الأصول العلمية وحجية الظن الانسدادي على الحكومة من مسائل علم الأصول، ولو كان المهم من علم الأصول هو التمكن من الاستنباط فقط لكان مقتضاه الالتزام بالاستطراد في تلك المباحث والحاصل أن لعلم الأصول غرضين ومع ذلك لا يخرج عن كونه علماً واحداً وإرجاعهما إلى غرض واحد غير سديد، لإمكان إرجاع الأغراض في جملة من العلوم إلى غرض واحد ككمال النفس مثلا.
والذي يخطر بالبال أن تعيين الموضوع للعلوم، كذكر التعريف لمسائلها وبيان الغرض منها، إنما هو لتبصرة طالب تلك العلوم على ما يظهر بعد ذلك لا لأجل لزومه في كل علم.
وكيف ما كان فإن أريد بالكلي، الجامع العنواني لموضوعات مسائله نظير سائر العناوين الانتزاعية حتى من المتباينات في تمام ذواتها ببعض الاعتبارات فهذا الجامع كالحجر في جنب الإنسان في عدم دخله في كون تلك المسائل من العلم، نعم لو بين بنحو حصل فيه الاطراد والانعكاس فهو يوجب معرفة موضوعات المسائل لطالب تلك المسائل.
وإن أريد به الجامع الذاتي، بأن يكون الموضوع للعلم كالجنس أو النوع لموضوعات المسائل، فلم يعلم وجه لزوم هذا الجامع، والاستناد في لزومه إلى قاعدة عدم صدور الواحد عن كثير، غير صحيح، لما ظهر مما تقدم أن الغرض من العلم يمكن أن يكون واحداً عنوانياً أو واحداً مقولياً له حصص متعددة يصدر عن بعض المسائل حصة منه وعن بعض آخر حصة أخرى من غير أن يكون فيما يصدر عنهما جامع ذاتي، مثلاً التمكن المترتب على العلم بمسألة من مسائل علم النحو، غير التمكن المترتب على العلم بمسألة أخرى من مسائله فيكون العلم بمسألة رفع الفاعل موجباً للتمكن من حفظ اللسان عن الخطاء في التكلم بالفاعل، وبمسألة نصب المفعول التمكن من حفظه عن الخطاء في التكلم بالمفعول وهكذا، فيكون الغرض من علم النحو مستندا إلى مسائله بخصوصياتها.
ولا يخفى أن القاعدة المشار إليها بأصلها وعكسها(١٠) أسسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأول من المبدأ الأعلى.
وقد ذكر في محله أنها على تقدير تماميتها لا تجري في الفعل بالإرادة، بل موردها الفعل بالإيجاب، لإمكان صدور فعلين عن فاعل بالإرادة مع كونهما من مقولتين، وبما أن الصادر من المبدأ الأعلى يعدُّمن الفعل بالإرادة فلا شهادة لها بوحدة الصادر الأول.
فتحصل من جميع ما ذكرنا أنه لا وجه للالتزام بلزوم الموضوع للعلم كما ذكر، كما لا وجه للالتزام بأنه لابد في مسائل العلم من البحث عن العوارض الذاتية لموضوعه فإنه يصح جعل مسألة من مسائل العلم مع ترتب الغرض منه عليها حتى لو كان المحمول فيها من العوارض الغريبة لموضوع المسألة فضلاً عن موضوع العلم، أو لم يكن المحمول فيها من العوارض أصلاً، مثلاً البحث عن الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته من مسائل علم الأصول بلا كلام مع أن المبحوث فيه الذي هو ثبوت الملازمة بين الايجابين ليس بحثا عن العوارض، فإنها ما يحمل على الشيء بمفاد «كان» الناقصة، والبحث عن ثبوت الملازمة بحث عنه بمفاد «كان» التامة، وكذا البحث عن اعتبار الاجماع مسألة أصولية، مع أن حمل الاعتبار عليه على مسلك الأصحاب ـ بلحاظ كشفه عن قول المعصوم (عليه السلام) ـ حمله مع الواسطة في العروض وهو من العرض الغريب حيث يكون الاعتبار حقيقة لقول الامام (عليه السلام)، وإسناده إلى فتوى العلماء يكون بالعناية.