ليس كل طالب يصيب ولا كل غائب يؤوب. ( نهج البلاغة ٣: ٥٣)      لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ( نهج البلاغة ٤: ٤١)      اللسان سبع إن خلي عنه عقر. ( نهج البلاغة ٤: ١٥)      بالإفضال تعظم الأقدار. ( نهج البلاغة ٤: ٥٠)        لا خير في علم لا ينفع. ( نهج البلاغة ٣: ٤٠)      
الدروس > بحث خارج > أصول > مباحث الدليل اللفظي الصفحة

تعريف علم الاُصول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلوات على أفضل المرسلين سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد: فإنّ أشرف العلوم بعد الكلام الفقه، وبما أنّه كلّ شيء يحتاج إلى أساس واُصول فلابدّ من أنْ نحقّق اُصوله بالمقدار المنتج في الفقه(١).
لنبدأ بتعريف هذا العلم فنقول: قدعرّفه المشهور بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة.
ولكن لخروج الأحكام العقليّة والشرعيّة العمليّة أضاف المحقّق الخراساني: (أو ما ينتهى إليه في مقام العمل)، كي يشمل الاُصول وحجيّة الظنّ الانسدادي على الحكومة.
وفي توضيح مسألة الظنّ الانسدادي على الحكومة ذكر السيّد الروحاني ـ قدّس سرّه ـ: سواء اُريد من الظنّ على الحكومة حكم الفعل بجواز التبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظنّي الملازم للإتيان بالمظنونات والمشكوكات، أو اُريد أنّ العقل يرى بمقدمات الانسداد حجيّة الظنّ فيقتصر في مقام الامتثال على المظنونات(٢).
والسبب في ضمّ المشكوكات إلى المظنونات في الشقّ الأوّل من كلامه ـ قدّس سرّه ـ أنّ الاكتفاء بالمظنونات وترك الموهوم والمشكوك لا يوجب الظنّ بالامتثال، إذ يبقى الاحتمال المساوي بأنّه لم يُمتثل بعدُ إلاّ إذا ضمّ إليه المشكوكات فيحصل الظنّ بالامتثال.
وهذان الشقّان وإنْ كانا داخلين في المقسم المعنون في كلام الاُستاذ وهو: (مسألة الظنّ الانسدادي)، لكن الظاهر أنّ الشقّ الأوّل خارج عن المقسم الذي ذكره المحقّق الخراساني ـ قدّس سرّه ـ وتلميذه الشيخ المشكيني ـ رحمه الله ـ، وهو حجيّة الظنّ؛ لأنّ معنى حجيّة الظنّ أنّ العمل به مجزٍ، ولا حاجة إلى العمل بالمشكوكات الأمر الذي يرجع إلى الاحتياط، فإنّ الاحتياط إنّما يجب أنْ يعمل به إذا لم يكن حجّة في البين، ومع وجود الحجّة وهو الظنّ لا موجب للاحتياط.
نعم، لو كان الواجب هو الامتثال الظنّي وجب العمل بالمشكوكات أيضاً لكي يحصل الظنّ بالامتثال، وإلاّ فيبقى الامتثال مشكوكاً لا مظنوناً. غير أنّ الظاهر من حجيّة الظنّ كون المعتبر هو الظنّ لا الامتثال الظنّي.
إشكالات المحقّق الأصفهاني على تعريف الخراساني
وبعد هذا فقد أورد المحقّق الأصفهاني على تعريف المحقّق الخراساني بعدّة مناقشات:
المناقشة الاُولى: أنّه ذكر لعلم الاُصول غرضين أحدهما: استنباط الحكم الشرعي، والآخر هو: المرجعيّة في مقام العمل. ولا جامع بينهما، وبما أنّ تمايز العلوم على رأي المحقّق الخراساني بتمايز الأغراض يستلزم كون علم الاُصول علمين.
وقد دفع هذه المناقشة الاُستاذ السيّد الروحاني ـ رحمه الله ـ بتصوّر جامع بينهما وهو ارتفاع التردّد والتحيّر الحاصل للمكلّف من احتمال الحكم(٣).
ولكن المحقّق الخراساني في غنىً عنه؛ لأنّه كما كشف وحدة موضوع العلم من طريق قاعدة: (الواحد لا يصدر إلاّ من واحد) كذلك يمكنه العكس من عكس القاعدة وهو: (الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد). فبما أنّ العلم واحد فلا يصدر منه إلاّ غرض واحد، وهو جامع بين الغرضين وإنْ كنّا لا نعرفه باسمه الخاصّ كما ذكر في الموضوع طابق النعل بالنعل(٤).
ولا يرد عليه أنّه من أين أثبت وحدة العلم، فإنّه يجيب بأنّ احتمال ذلك كافٍ؛ لأنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، أي اعتراض الخصم عليه.
المناقشة الثانية: أنّه هل اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم قيّد أم لا؟ فإنْ قيّد لم تدخل الأمارات فيه؛ لإنّها غير مقيّدة، وإنْ لم يقيّد لزم دخول القواعد الفقهيّة في التعريف؛ لأنّها ممّا ينتهى إليها المجتهد في مقام العمل والتطبيق(٥).
ولكن هذا المناقشة غير واردة؛ لأنّه يمكن اختصاص القيد بالشقّ الثاني من التعريف، وأمّا الأوّل فلا نقيّده.
المناقشة الثالثة: أنّ الأمارات غير العلميّة سنداً أو دلالة أو هما؛ إمّا أنْ يرجع حجيّتها إلى جعل الحكم المماثل للمؤدّى، وإمّا إلى مجرّد المنجزيّة أو المعذّريّة. أمّا على الأوّل فليست من الاُصول؛ لأنّ المسألة الاُصوليّة ما تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي لا نفس الحكم الشرعي، وأمّا على الثاني فلا ينتهى إلى الحكم الشرعي أصلاً.
أقول: حتّى لو فرض أنّ المنجزيّة والمعذّريّة بنفسهما حكم شرعي فأيضاً دخل في القسم الأوّل.
وتخلّصاً من هذا الإشكال عدل المحقّق الأصفهاني ـ رحمه الله ـ إلى: القواعد الممهّدة لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي.
ولكن يرد على تعريف المحقّق الأصفهاني ـ رحمه الله ـ ما ذكره الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ أنّ الممهّدية إنّما تعرف من اُصوليّة القواعد، فلا يجوز أنْ نعرّف الاُصول بالممهّديّة؛ لاستلزامه الدور. وأمّا إنْ قرأناه بالكسر فيدخل بعض المسائل المطقيّة والنحويّة والصرفيّة واللغويّة. إذن فهذا التعريف كسابقيه غير كافٍ.
وأمّا تعريف المحقّق النائيني فهو: ما يقع كبرى في قياس الاستنباط للحكم، أي إذا ضُمّ إليه الصغرى أنتج الحكم، كقولك: هذا أمر بالصلاة، وكلّ أمر يدلّ على الوجوب فينتج وجوب الصلاة.
وبما أنّه ـ قدّس سرّه ـ رأى نقصاً في هذا التعريف حيث يدخل فيه أكثر المسائل الفقهيّة، إذ الكبرى أعمّ من أنْ يكون كليّاً أو جزئيّاً، مثلاً: نقول: هذه صلاة، وكلّ صلاة واجبة، فهذه واجبة. فينطبق على مسألة وجوب الصلاة أنّها كبرى لاستنباط الحكم الشرعي في الموارد الجزئيّة، فتغلباً على هذا النقص أضاف على التعريف قيد: (أنْ تكون النتيجة حكماً كليّاً). فخرج أمثال مسألة الصلاة؛ لأنّ نتيجتها حكم جزئي.
وعلى رغم هذا الإصلاح بقي نقص آخر، وهو دخول بعض المسائل الفقهيّة، وهي القواعد الفقهيّة التي نتيجتها حكم كليّ كقاعدة: (العقد الذي لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده)، فإنّ نتيجتها عدم الضمان في الهبة الفاسدة لأجل عدم الضمان في صحيحها، وهذا حكم كليّ يرجع إليه عند الشكّ في الضمان بالهبة الفاسدة.
وتغلّباً على هذا النقص الباقي أضاف ـ قدّس سرّه ـ قيداً ثانياً وهو: (ألاّ تصلح لإلقائها إلى العامّي)، إذ المسائل الفقهيّة صالحة الالقاء إلى العامّي، بحيث يقدم بنفسه بالتطبيق على الموارد، بخلاف المسألة الاُصوليّة كحجيّة الخبر الواحد، أو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو بين المنطوق والمفهوم، فإنّ معرفة أمثال هذه المسائل لا تفيد العامّي شيئاً، فلا يصلح لإلقائها إليه، بخلاف معرفة نفي الضمان في كلّ عقد فاسدٍ لا ضمان لصحيحه.
وهكذا أصبح تعريف المسألة الاُصوليّة عند المحقّق النائيني ـ قدّس سرّه ـ بالشكل التالي: (ما يقع كبرى في قياس الاستنباط للحكم، بشترط أنْ تكون النتيجة حكماً كليّاً، ولا يصلح لإلقائها إلى العامّي).

(١) وذلك لأنّه وإنْ روي عن أمير المؤمنين ـ عليه أفضل صلوات المصلّين ـ أنّ علم كلّ شيء خير من جهله، لكن روي عنه أيضاً في صفات المتّقين: ((العلم النافع لهم))، ولذا لابدّ من الاقتصار في علم اللأُصول على القدر النافع في الفقه وأمّا أزيد فيتزاحم مع بقيّة وظائف الإنسان بعمره القصير.
(٢) منتقى الاُصول ج ١ ص ٢٣.
(٣) منتقى الاُصول ج ١ ص ٢٧.
(٤) ولعلّه لما ذكرنا لم يتكلّف المحقّق الخراساني ـ قدّس سرّه ـ لتصوير جامع بين الغرضين واكتفى بذكرهما فقط موكلاً الأمر إلى قاعدة: (الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد).
(٥) نهاية الدراية ج ١ / ١٢.